منتدى حنا في حنا ثقافي *علمي * تعارفي *دردشة |
|
| موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 12:35 | |
| الطاهر وطار الطعنات قصص الطبعة الثالثة الشركة الوطنية للنشر والتوزيع- الجزائر - الطاحونة بالرغم من حرارة الشمس الشديدة، شمس الظهيرة وشمس جوان، لم أهدأ في مكان، ولم يستقر لي قرار لم أكن قلقًا أو مضطرب البال، لا بالعكس،بحثت في أعماق نفسي عن أثر للقلق والاضطراب، فلم أعثر،كنت هادئا هدوء غابات الجبال المحيطة بنا، بعد أن توقفت الحرب الطويلة، المريرة، ومع ذلك لا يقر لي قرار. طفت بعدة مكاتب، لكنها كانت خالية، الجنود نيام، أو على الأصح مبعثرون،في الخيام وفي البنايات الخشبية والحديدية، وتحت الأشجار هنا وهناك.. . بعد صبيحة مرت ساعاتها ثقيلة، ثقل الفقر، والاضطهاد والعسف، لأنه ما من أحد يعرف بالضبط، ما هو عمله، وما هي فائدته إن عرفه، المساكين يحيون ,نحيا،كما لو كنا في معتقل رهيب،لا في مركز، من أهم مراكز جيش التحرير،اليوم وأهم قلعة للعدو في قلب الأوراس، بالأمس القريب. هذه المكاتب الخالية من كل أثر للحياة، تعبر عن نفسياتنا.. . الغبار ينتثر على كل شيء، الجدران، المقاعد، آلات الرقن، المناضد، حتى أقلام الرصاص.. . والأوراق مبعثرة في كل مكان الأرض، الرفوف،المناضد، كان بعضها أبيض يليق للكتابة، أو لم تلوثه أقدام، يبدو أنها حائرة، وكان بعضها قد كتب عليه سطر أو اثنان، استطعت أن أحرز بكل بساطة، أن كلماتها لا تتجاوز ما حفظناه منذ السنوات الأولى لاندلاع ثورتنا(الجمهورية الجزائرية) (جيش وجبهة التحرير الوطني) وبعض كلمات أخرى أحفظها عن ظهر قلب . .. مسكينة هذه المكاتب، لا تستطيع أن تنظم نفسها بنفسها.. . الثورة أول مهمة تنجزها هي تحطيم الشكل القديم للمكاتب، خطر ببالي، مساكين أيضا أصحاب هذه المكاتب،أبناء الفلاحين الفقراء والعمال الكادحين ومعلمو القرآن، الذين تحولوا إلى جنود وإلى ضباط بحكم البذلة العسكرية،لا تستطيع نفسياتهم أن تنتظم عفويا ومن تلقاء نفسها.. . الثورة ليست عاصفة هوجاء تقتلع الأشجار وتخرب السدود وتحطم القرميد،إنما غيث سحساح، يجرف الطحالب والأغصان الهشيمة ويغذي العروق الحية، لتزهر الحياة وتخصب وتثمر. آه. لو كلفت بمهمة لحققت.. . تفكر في المسؤولية؟ الناس كلهم متعطشون للمسؤولية فحين يفقد العمل الثوري محتواه وتبقى المسؤولية شرفًا وأوسمة، يتسابق إليها كل خامل…لكنني فقط أريد أن أعمل أن أنجز شيئا، شيئًا يشبه المعجزة في هذا الوسط، أنا لا أريد المسؤولية لذاتها ولا أريدها لنفسي، إنما أريدها لإمكانيات الإنجاز التي تسمح بها . .. لا.لا. لن يتركك أحد تعمل، سينقطون عنك كالنسور الجائعة لن يتركوا حجة تقوم ضدهم. فالأمس القريب كان المثقفون يذبحون، تلك الذهنية ما تزال قائمة، إنما بدل الذبح اليوم هناك التجييف.. . الثورة التي لا تتخذ المثقفين الثوريين سمادا لها ستظل نسير عرجاء. خطر ببالي، وقلت في نفسي: الطاحونة تدور، والجعجعة تملأ الآذان.. وما من أحد ها هنا في حاجة إلى الطحين، ولا إلى الحجة . لم تؤثر في هذه الخواطر، فقد ألفتها وألفتني، وظللت هادئا، تاركا الحرية لقدمي تجرانني حيث شاءتا وليدي تسويان القبعة على رأسي، وتحجبان بها الشمس عن عيني.. . لا. الحق أقول الشمس ليست هي السبب في عبث يدي بالقبعة، فمن عادتهما أن تضعاها على جبيني حتى في الليل .وقد كان ذلك يحلو لي باستمرار، ربما لأنه يخفي عيني، أو يميزني عن سائر الجنود ولربما لأنه يستفز المسئولين ويحرجهم،، فيتحاشون الحديث معي، وهذا ما أريد.. . لا لشئ إلا لأنني سئمت الجعجعة. بينما كانت قدماي منهمكتين في عملهما، ويداي كذلك، انطلق بصري متخلصا من باطني . .. العلم يرفرف، متحديا ثقل الجو، كأنما هو بدوره يريد إنجاز معجزة ما، أو كأنما يريد أن يلفت الأنظار إلى أن العلم المثلث اختفى من الأوراس إلى الأبد الآبدين.. . لا. لن يفهمك أحد أيها العلم، وكفاك أن تحيى في الصباح وفي المساء، فإن الطاحونة تدور، والناس منشغلون بالجعجعة، ولن تكون حجة أنت أيضا . .. انتقل بصري دون أن أدري للجبال، كانت تشكل دائرة تحيط بالمركز، ترتفع تارة، وتنخفض أخرى، بيد أن قممها كلها تتصل مباشرة بالسماء.. . في الليل تمكر بالقمر فلا يطل علينا إلا حين نكون في غنى عنه، وفي الصباح تؤخر عنا الشمس فلا تداعبنا أشعتها إلا حين نكون قد بدأنا نسترخي، وفي المساء تسارع بإخفائها فيداهمنا الليل قبل الأوان.. . هذه الجبال أشبه ما تكون بالمسئولين، سالت في كل شبر منها دماء شهداء، وانطلقت من وراء كل صخرة بها، رصاصة من بندقية رجل، وعصفت بكل شجرة فيها قنبلة، أو زفرة حرى لكنها مع ذلك تمكر بالقمر وبالشمس فلا يطلان إلا بعد فوات الوقت . .. بدأت تهذي، وتفكر، هذه معنوياتك تهوي، إلى القعر.. . لمت نفسي. وانخفض بصري، رويدا، رويدا، حتى استقر قرب المطبخ.. . كان هناك صبيان نحيفان، حافيان قذران تغطي جسميهما أسمال بالية لاهي بالمدينة، ولاهي بالعسكرية، تتدلى شعورهما على عيونهما، في يد كل منهما علبة طماطم كبيرة، من مخلفات جيش العدو، ثقبت وألصق فيها خيط قذر، فصارت سطلا لا يفارق أيدي الأطفال إلا حين يتمددون ليداهمهم القمل والنوم، والأحلام اللذيذة . .. اقتربت منهما، فبادرني أحدهما: -عم. أعندك ______________خبز.. ؟ هذا الصغير الذكي، ينظر إلى يدي الفارغتين وإلى جيوبي الشاحبة ويعرف أنني في الخلاء مثله، ويرى أنني ككل من هاهنا أدخن العرعار بينما جنود(القوات المحلية) يدخنون التبغ الأمريكي.. يسألني هذا السؤال؟. هذه تحية.لا.كلمة السر. لا. تبرير لوجوده داخل المركز.. . بطاقة تعريف وهوية.. المسكين خائف. هذه الأنوف الدقيقة المستقيمة، وهذه العيون الزرق، وهذه الذقون الحادة ,والوجوه المستطيلة.. هذه السيما البربرية الخالصة، هؤلاء أحفاد الكاهنة الذين مازالوا حين يتصافحون يقبلون سباباتهم راسمين إشارة الصليب، وكأنما هم في عهد الفتوحات، أو في عهد اضطهاد المسيحيين الأول، حيث يعنون بذلك: -مسيحي .فاسكت. -هؤلاء ما بهم؟ البشر حين يجوعون يذلون ولو كانوا أحفاد الكاهنة . ..ًٌ -من أين يأتيني الخبز يا عزيزي؟ لكن سأعطيكما بعض الدراهم.. . فانتظرا حتى نتعارف .. . تهالكت قرب الصبيين في ظل جدار المطبخ، وخيل لي أنني أسمعهما يهتفان : ما أطيب هذا الجندي كان أحدهما يحدق في بعينين طروبتين، وابتسامة عذبة بريئة، تترقرق على شفتيه، أما الآخر، فبدأ لي منقبضا، متضايقًا، حرجا لا يرفع بصره عن الأرض، تجثم على محياه عبسة خجول. آه. يا صغيري العزيز، ألا يسرك وجودي؟ لو تعلم كم أنني أحبك. تأملته برهة ثم قلت محاولا إزالة الكلفة بيننا: -ألا تقرآن؟ . .. -نقرأ في (الجامع) القرآن عند( الطالب) ونقرأ في المدرسة أيضا. في المدرسة أيضا؟ -في مدرسة جيش التحرير… لا نقرأ كثيرا ..وسيدي لا يعرف الفرنسية.. والبنات أيضا يقرن معنا.. وحتى الأطفال الكبار. -شيء حسن جدا.. . بداية طيبة هذه، ستتحسن الأمور في المستقبل القريب. -ويكثر الخبز أيضا.. أليس كذلك؟ -نعم. نعم. ستتبدل الحياة تماما. -لكن يقولون إنكم سترتحلون؟ بالأمس ارتحل الجيش الفرنسي واليوم . .. غمغم الصبي، ثم أطرق يفكر كالمنكوب، وفهمت دون أن يتكلم أنه يقول متألما: -ترتحلون أنتم أيضا.. ومع ذلك تظن أن الحياة ستتبدل تماما، أتعني أن الخبز سينقطع؟ -سيكثر الخبز.. . لن يتصدق عليكم به أحد، لكن ستنالونه باستحقاق، انظر إلى هذه الأراضي الشاسعة، إنها ملكنا جميعا، وهي غنية، تعطينا إلى الأبد ما يكفينا خبزا وخضروات وغلالا، كان الاستعمار يشغلنا عن أرضنا، لكننا اليوم . .. -أبي استشهد . .. وتوقفت الكلمات في حلقه. قيل لي إن كل الأطفال الذين أراهم يتهافتون على المطبخ، صباح مساء في انتظار ما يتبقى من "فضلات" في صحون الجنود، أبناء شهداء. -وأنا لا أقدر على حراثة الأرض.. . أريد الخبز، والقراءة. -ما اسمك يا عزيزي؟ ) -بسعو( اسم جميل جدا.وأنت يا ولدي، لماذا تسكت كثيرا؟ ما إ سمك؟ ) -قاقا( لفظ اسمه بصوت لا يكاد يسمع.. انه خجل لست أدري لماذا.. ؟ حاولت تناسيهما والخبز معا، لكن(زوجة وزير في (حكومتنا الثورية أنفقت بتونس في ظرف يومين قرابة المليونين).( ومصالح القادة الجاسوسية تنفق يوميا عشرات الملايين ).( . .. والقوات المحلية تعوم في الذهب).(والعالم كله يتبرع علينا) ( والخيرات مخزونة عند الأغنياء)، ( وأبناء الشهداء يتضورون جوعا.( الطاحونة تدور، الجعجعة تملأ الآذان.. ولا أحد يسأل عن الطحين، والحجة ينبغي أن لا تقوم.. . والجبال تمكر بالقمر والشمس فلا يطلان إلا بعد الفوات.. . آه. لو كلفت بمهمة.. تفكر في المسؤولية؟ تطمح إليها؟ لو يسمعك أحد يقهقه. ) -قاقا) ما بك؟ ألا يسرك وجودي قربك؟ وأبوك، أين استشهد؟ احمرت وجنتاه، وتندى جبينه عرقًا،واضطرب السطل في يده.. . وكادت عيناه تغوران وفجأة بادرني: -ليس لي أب، لا أب لي، لا أعرف أبا.. أبدا اقسم لك. واعتراه الخجل.. . هذا الصموت.. (قاقا) ماذا يخفي وراء كلماته؟ لو كنت ابن شهيد لأنكرت ذلك، وأقسمت على أنني لا أعرف لي أبا.. ما أحكم (قاقا).. أما )بسعو . .. ألقيت عليه نظرة فوجدته يبتسم في خبث .. " بسعو "، عم تنطوى بسمته ونظرته؟ التقت عيون الصبيين ففهمت أن هذا الحوار يدور بينهما: -أأطلعه عن الحقيقة؟ ) -بسعو) كن عاقلا.. إياك، سأقاطعك منذ اللحظة. -لكن. إنه طيب ..وسيعطينا النقود . .. -سأترككما إذن يا (بسعو.( قال (قاقا) وطأطأ رأسه مرة أخرى، واعتراه الخجل أكثر.. . هل كان أبوه قائدا بطلا؟ بالأمس سمعتهم يتحدثون عما تقاسيه زوج ابن بولعيد وابنها من فاقة وعوز،اقتسمت الثورة والاستعمار أموال ابن بولعيد الطائلة. الاستعمار ارتحل، وأبناء الشهداء يتضورون جوعا، والطاحونة . .. شعرت بالدوار ورفعت بصري إلى العلم، يرفرف وتشخص لي (كافكا) يوقع على المسخ . .. لا. (هوغو) الأيدي القذرة، يطلق الرصاص. لا (جوبيتر) الذباب.منهوشًا. كلا(بابلو (لمن تدق الأجراس يصارع السقوط.. لا.الأمير عبد القادر يوقع وثائق الاستسلام.لا.ناكر وتاريخ الجزائر يترأسون حكومة الثورة.. . وبدأ لي أن قدمي تغوصان في الوحل وأنني أنجذب فأجذب إلى أعماق هاوية سحيقة. لست أدري كم من لحظات مرت حين استفقت على ) قاقا) يسترق ربع نظرة إلي، خفض بصره فربت على كتفه.. كانت عظامه ناتئة حادة. ) -قاقا) إنني أخوك.انظر ______________إلى (بسعو) كيف هو مرح. تأكد أن كل شئ سيتبدل عما قريب. وتساءلت في نفسي هل أومن بما أقول، ثم أضفت: -أصحيح إنك لا تعرف أباك ؟ -أبوه حركي، وهو الذي قتل أبي . قال بسعو، هازئا، فخورا، متشفيا، ضاغطًا على الكلمتين لأخيرتين.. قتل أبي. انتفض (قاقا) كما لو أن قنبلة غير متوقعة، انفجرت، ونهض واقفًا يحاول الهروب.. تشبثت بذراعه الصغيرة، وأجلسته بعد لأي، فارتمى علي، وانفجر باكيا. ليس من حق(بسعو) أن يفضحه أبدا.. لكن حين نظرت إليه قرأت في عينيه: -قتل أبي -لكن يا( بسعو) ما ذنب (قاقا)؟ ليس هو الذي قتل وليس هو الحركي، ولو كان كبير لإلتحق بالثورة، وتغيرت حياة أبيه رأسا على عقب.. أكنت تقتل الحركيين يا قاقا لو كنت في الغابة مجاهدا؟ استعنت بكل ما أملك من خبرة، وبكل اللهجات، لأقنع الصبيين بما يبدو لي أنه الحقيقة.. وبعد جهد احتضنني (قاقا) وطبع على جبيني قبلة حارة هامسا: أنت طيب. تذكرت قصة الرفيق(ماكرنكو) قصيدة تربوية.منذ قرأتها أحببت الأطفال، وبت أحلم لو تتاح لي فرصة فأطلق نظريات (ماكرنكو (في التربية. قد تتاح في فرصة ذات يوم.. . هذه الجبال المحيطة بنا في شكل دائرة ,تمكر بالشمس والقمر، فلا يطلان إلا حين نكون في غنى عنهما. قال( بسعو) ضاحكا ,فتبسم (قاقا)، ونقر سطله ليصرخ: -خاو كما ترى. -أمهاتنا ينتظرن، وأخوتنا يبكون. -أضاف(بسعو.( انطلق بصري نحو السماء.. العلم يعربد.. . مع ذلك ضحكت .. ثم تأملت مركز التجمع حيث يقطن الصبيان وكل أهالي الجهة أكواخ قاتمة يغطيها الديس والتراب منثورة على الأشجار والصخور تجف، كانت ألوانها رغم التعاسة ناصعة مزهوة، لا أثر للدخان أو لل************، بعض أحمرة مطأطئة قرب أكداس أعواد جافة هدوء شامل يخيم على المركز، فبد لي مقبرة مهجورة، سكون عميق يلف المنطقة باستثناء صوت طائر ينبعث من الصخور البعيدة : -طيكوك طيكوك في الماضي، كان الصوت يبعث الحيوية في الحياة، إن يستفسر العجول فتهج راكضة وذيولها تصفع في مرح الذباب ,لتتبعها البقرات والأطفال نحو الوديان الرقراقة. أما الآن فما أثقل هذا الصوت الحزين، لأنه لا يثير إلا الذكريات البعيدة.. . لا الهمم لمواصلة المهام الثورية ..قد يكون صوت شهداء الأوراس. -عم. ما بك ؟ انك توشك أن تبكي -لا شيء. لكن الجندي كما تعلمان فقير أيضا ليس معي سوى عشرين دورو، هاهي، اقتسامها.. سلبتما كل ثروتي أيها الشيطانان -أنت طيب جدا. ردد قاقا، أما " بسعو " فقال مقهقها: -ينبغي أن نحذر اللصوص ونحن في طريقنا بهذه الثروة يا قاقا وقبل أن نفترق سألني " بسعو " في حذر القطط : لم أرك في مطبخ الجنود، أتأكل هناك ؟ وأشار بإصبعه الوسخة مضيفا : الآخرون يسألوننا، هل لنا أخوات.. البارحة أمي وأختي طردتا با لعصى ضابطا اقتحم كوخنا -نعم، آكل في المطبخ الضابط.. مع أنني لست ضابطا -لا يتركوننا أبدا نقترب من هذا المطبخ. قال قاقا . خيل لي وهما يبتعدان، أنهما يسيران في بركة دم متشبثين بالخبز، وعلى ظهريهما أكياس يحملانها إلى الطاحونة على الضفة الأخرى، ليعبثا جعجعة جديدة، ولكن بالطحين هذه المرة. 1963 [/size]]الأبطال وضع القلم والأوراق جانبا، وأشعل غليونه، وراح ينفث الدخان بدون انقطاع، ويلعن من قلبه، أبطال قصته، الذين توقفوا عن العمل. هؤلاء الأنذال، كأنما نسوا، أنني خالقهم، وأنه في وسعي بين لحظة وأخرى ,أن أميتهم.. الملاعين، المتنكرون، نخلقهم، ثم نحار في أمرهم، منهم لأعدمهم، لأجعلن خاتمتهم شر خاتمة. ثم أعاد الأوراق أمامه، وحمل القلم للمرة المائة، لكن ما لبث أن ألقى به وبالأوراق، ليعود إلى الغليون، ينفث دخانه الذي كاد يغطي جدران الغرفة الضيقة حوله، فيحولها إلى فكرة سوداء، تتكور في رأس شرير شقي. -الأبطال. أبطال قصة ما. ما هم؟ لا شيء.. مجرد حروف سوداء، على ورق أبيض، تتهددهم بين لحظة وأخرى ,سلة المهملات.. جرة قلم فقط.. قرار الخالق.. فيمسخون، إلى مجرد حثالات عادية ,بمضغون الأشواك الجافة، وسط القطيع الأعمى، الأحمق . .. -لا، يا سيدي، لا. إنك مخطئ. هز الصوت رأسه إلى الباب الذي يبدو من خلال الدخان، كما لو كان بسمة في فم منافق. -من أنت؟ -أنا عمار بن بوجمعة، شهر ( لاندوشين).. أسمر اللون، صغير الرأس، ضيق الجبين، ضيق العينين، عريض الوجنتين، أحمل في إحداهما وشمة مكوية بالثوم، شفتاي غليظتان، أسناني مطلية بالذهب ذقني ناتئة مستديرة، أرتدي سروالا حوكيا، على رأسي عراقية سميكة، منسوجة من الصوف والحلفاء، وفي قدمي حذاء أمريكي جاف، ممزق ومشدود بسلك مهترئ، أكله الصدأ …أنني كما ترى حسب ما خلقتني، لأنفذ إرادتك.. أتسمح لي سيدي بالجلوس، فإنني مرهق كما أردت. -تفضل. إجلس.. لقد جئت في الوقت المناسب. قال الكاتب، وأصابعه منشغلة بإدارة الغليون، لنطفئ التوتر الذي يلهب أعصابه، وعيناه عالقتان بالباب الذي انبعث منه، صوت ثان. -وأنا يا سيدي ا. من تكون؟ -ألم تعرفني؟ ا أو ينسى الخالق مخلوقاته؟ أنا واحد منها يا سيدي الكاتب . .. إن البلادة لتفوح منك.من أنت؟ -لقد أردت أن أكون بليدا ..بالمناسبة احتج على ذلك، فلطالما، احتج المخلوقات في غياب خالقهم …وتنموا أن يستفسروه في أشياء…آه. يا سيدي. كنت تقول : نخلقهم فنحار في أمرهم.. أن كلامك هذا لصحيح، فأنت كما يبدو، لا تتحمل بلادتي التي رزقتني بها.. قه قه.هاها.. ترى إذا لم يتحمل الخالق ما خلق، كيف يكون مصير المخلوقات.. إن الضحك يغلبني.. المعذرة، قه قه.. هاها.. ألا يبدو لك، سيدي، إن شر الأعمال هي الخلق .. على أية حال، تسألني من أنا؟ آه من أنا ؟ أجهل نفسي لحد الآن، أولا تذكر أنك لم تعطني اسما بعد ا؟ بيد أنني أقدم لك نفسي، بهذه الصفات التي وهبتني إياها. أنظر، طويل القامة، كبير الأنف بشكل فظيع، واسع العينين، في خدي الأيسر، أثر رصاصة، أصابتني في الهند الصينية، حين كنت متطوعا بالجيش الفرنسي، أسناني بارزة كأسنان المشط.. كما خطت يدك الكريمة.. أرتدي سروالا عسكريا قديما، مرقعا من الخلف بخيط غير مناسب للونه، مما يجعله يبدو كرأسي الأقرع، حين أنزع عنه (رزتي)، وأتأمله، متخفيا في مرآتي الصغيرة ,التي لا تفارق جيبي، والتي لولاها لما كان شاربي، على هذا الشكل الجميل كما ترى ,أميل كثيرا إلى المشاكسة والمعاكسة، ولا يهمني، في حياتي، سوى جمع أخطاء الغير ..تزوجت دفعة واحدة، أربع نساء، وطلقتهن دفعة واحدة أيضا. أظن سيدي أنك عرفتني ..أنني متعب منهمك، فمنذ ساعات، وأنا وراء تجميل شاربي.. ارحمني يا خالقي أجلس لقد عرفتك، واسمك "معروف بن بادي" ’ شهر "موسطاش" حضرت في الوقت المناسب. -أجاب الكاتب، وهو يواصل البلحقة في الباب، وامتصاص الغليون ونفث الدخان. -ما نحن بأنذال، ولا بملاعين، ولا بمتنكرين، يا سيدي الكاتب، حتى تلعننا، وتصب علينا جام غضبك .. -إن الخالق لرؤوف بمخلوقاته.. المفروض هذا.. فهي مجرد رغبات له، مستقلة عنه، منطلقة عن إرادته، بإرادتها.. هذا شأن، كل الرغبات، إنما في الغالب، عمياء ,وحمقاء في نفس الوقت.. لولا ذلك لانعدمت الحياة. -آه. أهذه أنت، خديجة بنت الإمام، الأديبة الظريفة الجميلة، تفضلي. -لا يا سيدي، أنا (رهواجة) القالمية، بنت قدور الصائغي، ماتت أمي، منذ ثلاثة سنوات، لأبقى في خدمة أبي الذي رفض أن يتزوج بي في جهنم زوجات الآباء، فأبى أن يتزوج قبل أن يشتد عودي رغم أنه صغير السن، لا يتجاوز الأربعين. أحفظ ربع يس، وأحسن نسج الزرابي، وفتل الكسكسي، أهوى كثيرا المناديل الحمر، وأعشق (القوفية) التي ورثتها عن أمي، ويطيب لي كثيرا، أن أرى النساء في الحمام معجبات بما يزينني من فضة، لا ينفك أبي يديجني بها، طويلة كالصفصافة، وردية كنوار الدفلة، صدري صارخ اللأنوثة، رقيقة الخصر، غليظة الفخذين ,شعري طويل فاحم كثعبان الزوبعة، عيناي في سواد الزيتون، شفتاي، كحبة كرز طرية. أما.. آه.يا سيدي، إنه لمخجل، أن أتحدث أمام هذين الغريبين، اللذين يجلسان من حولك عن بقية صفاتي، وما أجرجره ورائي من ثقل .. إنك تعلم.. فمن صفات الخالق معرفة مخلوقاته.. أتسمح لي بالجلوس، فقد أرهقني النسج، منذ الفجر.. ؟ -إن ذهني ,باستمرار، منصرف إلى خديجة، بنت الإمام الأديبة الظريفة الجميلة، بطلة القصة المهملة.. حقًا نخلق الأبطال، ثم نحار في أمرهم؟ -ردد الكاتب في نفسه، ثم رفع صوته مخاطبا رهواجة: -تريدين أن تقولي : أما رغبتي في أن يتزوجني رجل ثري، يستطيع إبدال فضتي ذهبا، فهي لا تكاد تفارقني ليل نهار. ما كان يليق أن تخجلي ,فبين الخالق والمخلوقات، حين تزول الوساطة، ترتفع الكلفة، ليحل محلها، الصدق ,والصفاء، اجلسي يا رهواجة. أهذا ما تعلم يا خالقي؟ ا حسن جدا، فليبق الثقل على كاهلي وحدي .. -أعلم، أعلم، منذ أشهر وأبوك يضاجعك.. غير متعلق، ذلك، بإرادتي أو رغبتي، كل الأمم، يضاجعها ماضيها.. وتحبل منه. -آه، أتنفس الصعداء، وأشعر بالعبء ينزاح. اعتدل الكاتب، في جلسته، وامتص نفسا طويلا من غليونه، سرعان ما نفثه، دخانًا أسود، أضفى على الحجرة، حدة الفكرة السوداء، التي بدأت تكتمل في رأس شرير شقي، ثم توجه إلى أبطاله من حوله: -رائع جدا.الآن وقد حضرتم، وخلقكم مكتمل، ينبغي أن تفهموا، ما سأكلفكم به، لتنجزوه، بكل دقة، حسب إرادتي. -آه ,سيدي، إن من لا يعرف دوره، يظل منقوص الخلق.. ونحن حضرنا إلى هنا لنفهم دورنا، بعد أن أعيتنا الدوامة التي ظللنا نتخبط فيها، في فكرك . .. قال عمار بن بوجمعة شهر" لا ندوشين: " -إحتفظ بحق الاعتراض خالقي، أو على الأقل بحق الاحتجاج.. والتمس شفاء قروح رأسي، وأني أتوق لتعريته.. ضع الخمر في طريقي وأمرني بما تشاء، فحين أسكر يخف ألمي.. أن ألقيتني في بحر أو نهر، أو بركة، فاجعل المياه خمرا. أضاف معروف بن بادي شهر "موسطاش".. فتمتم الكاتب: -كالتاجر، كالحواري، لا يستطيع العمل إلا بالتخذير.. من يخدر يخدع، وأنا آمرك، ولا أخادعك. -ما أروع ما تقول.. عذب كالأغراء، كالتزحلق نحو الخطيئة، كالقبلة في الظلام الدامس.. يا إلهي ماذا أقول؟ لم أتعود إرتكاب الإثم إلا في السر، وها أنني.. سيدي الكاتب، تقول خطاياي، مع أبي ,ليست من صنع إرادتك، ورغبتك، فهل تستطيع محو الماضي من رأسي، وتخليصي من نهمه، واستسلامي كالنعجة الحلوب. الذنوب الكبرى رائعة، لكن معصرة الندم شديدة الوطأ.. آه، لو كنا نعيش زمنًا واحدا.. إما الظلام الدامس، حيث نتزحلق ونتزحلق في الخطايا , ونتلذذ ونتلذذ المحرمات، حتى نتلاشى.. وأما النهار السرمدي، فنرشف ونرشف الأشعة حتى نتبخر، ملائكة أبرارا.. بأجنحة حمر، وبدون خطايا الآباء.. آه، خالقي . .. رددت رهواجة القالمية بنت قدور الصائغي وعيناها السوداوان مغمضتان فقاطعها الكاتب: -ما التهمة الزمن من أفعال، لا تمحوه الإرادات، ولو كانت الآلهة .. رهواجة لازمي ,إزاء خطاياك، صمت الأمم الزانية مع ماضيها.. ولا تتألمي كاليسا ريين المستعجلين للثورة والخلاص. إمتص الكاتب نفسا طويلا من غليونه، وراح ينفث الدخان القاتم رويدا رويدا، ثم واصل: -هي ذي أدواركم يا أبطالي الأعزاء.. . أنت يا عمار ,بن بوجمعة شهر "لاندوشين"، بعد أن تفرغ من بيع عنزاتك، في أمسية مضببة، غائمة ,تمتطي بغلتك السوداء، وتتجه عائدا إلى منزلك في البادية، وقبل أن تغادر القرية ,تعترض طريقك خارجة من الحمام، عملاقة تلتحف السواد، وتحمل حقيبة في يدها، فتوقف بغلتك، وتظل تبحلق، ثم تكشر عن أسنانك الذهبية، فتنبهر العملاقة بالذهب، وتمديدها لترفع الخمار. -الهي ا هذه الحورية من تكون؟ ثم تمر وئيدة مختالة، تتبعها ببصرك لحظات، ثم تمشي وراءها، مطأطئ الرأس، كأنك في جنازة.. إلى أن تصل منزلها ,تلتفت برشاقة نحوك، تزيح الخمار، ثم تبتسم وتتدلف.. يصطفق الباب، فتبقى حائرا مبهوتًا، ثم تتنهد من أعماقك، وتدير بغلتك، فتفاجأ بقدور الصائغي يحمل سلة غلال ,وقارورة ملفوفة في ورق رمادي. -أهلا، ومرحبا. ماذا تفعل هنا؟ -في طريقي إلى باديتي. -أفي مثل هذا الوقت، وهذا الطقس الغائم المضبب؟. ينبغي أن تبيت عندنا، يا ******وني المحترم تتردد، فيقسم، فتنزل من فوق بغلتك، وحين تقتران من باب المنزل، يضظرب قلبك، وتهمس: -أبيت في منزل الحورية.. يا لفانوس علي بابا السحري. وحين يدلهم الظلام، ويخيم السكون، يخرج قدور الصائغي، ويعود بعد لحظات ,فيلفحك برائحة الخمر، وتتذكر القارورة الملفوفة، في ورق رمادي.. يحدثك عن السياسة ,فلا تفهم.. وبعد تردد، تذكر له، أنك سمعت، بأن له بنية، وانك تطلب يدها.. . فيقبل ,شرط أن تقطن معه.. فترفع بصرك، لتراها خلف الأسترة تبتسم، فتكشر عن أسنانك الذهبية ,وتعلن أنك راضخ لكل الشروط . .. تبيع أرض والدك، وتشتري الذهب، وبعد أسبوع، تدخل عريسا على رهواجة، تملا. تفوح منك رائحة العطر ممزوجة برائحة الخمر.. فلا تفطن للبكارة المفتضة .. يمارسك قدور الصائغي، فيدخل السياسة في رأسك، وما أن يمر شهر حتى تندلع الثورة. وفي صبيحة ممزوجة، بالكآبة والبهجة، تودع زوجتك وداعا أليما.. ثم تمر على متجر صهرك، فيقدم لك الاشتراكات، وتنطلق نحو الغابة، متطلعا إلى الشمس التي تصارع السحب ولا تعود إلا بعد سنة في ليلة ليلاء . .. -وأنا، يا سيدي؟ تساءل، معروف بن بادي شهر "موسطاش".فبادره الكاتب: -مع الفلول الهاربة من جحيم ديان بيان فو، تعود، فتسرح من الخدمة، تظمأ الخمر، فتشربه في رمضان وفي النهار.. يعرض عليك المسبلون الالتحاق بالغابة. ويعرض عليك الضباط الفرنسيون رتبة عسكرية لتؤسس فرقة الحركة، وإثر سكرة شعواء، تعيد ارتداء الزي اللعين، وتنغمس ,اشهرا واشهرا، حتى الليلة التي تؤمر فيها بتفتيش كامل منازل القرية.. حيث تدخل منزل قدور الصائغي، وترفض الخروج تشتهي رهواجة.فتحاول إغرائها، تتأبى، وتغرقها في الذهب، تسرقه وتستولي عليه من عجائز القرية، حتى تتزحلق رهواجة، وترتمي في أحضانك ,ويوافق أبوها على زواجكما.. دون أن تعلما أنه أرسل يستحضر عمار بن بوجمعة شهر" لاندوشين" ليلة العرس. .. -سيدي. خالقي. الرحمة . حاول معروف بن بادي ورهواجة ان يقاطعاه، إلا أنه واصل: -تشتد بك ياعمار، الغيرة والحقد ,والكراهية، وتطغى عليك فكرة الانتقام، فتقرر، بدل إرسال فدائي، قتحام القرية ,بالفرقة التي تقودها، وتقصد المنزل الذي يضم زوجتك وعدوك . .. هناك. وفي هذه الليلة الليلا هذا ما يجب أنت تحققوه الآن.. هيا أيها الأبطال. قوموا، بدوركم .اشرعوا في إنجاز المأساة .. . اعزفوا.. اعزفوا الأنغام.. . البطولة.. الخيانة ..الغدر.. الانتقام.. الدم.. الدماء.. قوموا بدوركم أيها الأبطال. ساد الصمت برهة ,اطرق فيها الابطال، والكاتب، ثم قال معروف بن بادي شهر موسطاش وهو ينهض: -يا للمصير.. . يقتلني عمار بن بوجمعة، لا بقي كومة من أخطاء الغير، تدوسني نعال الحثالات العادية، وسط القطيع الأعمى. وتمتمت رهواجة القالمية، وهي تتناهض أيضا: -وأظل رمزا للخيانة والغدر والإثم.. تصطدم بي الحثلات العادية وسط القطيع الأعمى.. يا للفظاعة.. . أما عمار بن بوجمعة شهر "لاندوشين"، فقد همس وهو جامد في مكانه: -يحاصرني العدو، فأستشهد، وإظل.. . سيدي الكاتب، حين كنت في محفظتك، اطلعت في القصة المهملة أن الشهداء عادوا إلى الحياة، فاغتالهم الأحياء . ..دعني أفكر مليا سيدي. امتص النفس الأخير من غليونه، وفتح عينه، ليجد نفسه وحيدا في غرفته، يحيط به الدخان الأسود، وأمامه القلم والأوراق. ثم همهم: -من الإنصاف والعدل، أن يطلع الأبطال - حقيقيين كانوا أم مزيفين - على مصائرهم، قبل أن يبلغوها. وألقى بالفصل الأول من القصة، في سلة المهملات ونهض يفتح نوافذ الغرفة ,ليتبدل الهواء المخنق.. . وتطلع إلى الشفق، الذي تأبى السحب أن تدعه يحمر. أفريل ١٩٦٤ [font=comic sans ms][size=16]الدروب_درر، درر، الليالي السود ماتت، البيضاء تقول للبيضاء والسوداء تقول للسوداء، الليالي السود ماتت، درر، درر . تغنى للنعاج، فتناغمت معه، بثغائها الجميل، وكأنما فهمته، بل، كأنما امتثلت لأمره، وراحت تخاطب بعضها، البيضاء تقول للبيضاء، والسوداء تقول للسوداء، الليالي السود ماتت. كان قد عدها، عشرون، ونظر إلى عصاته، واستعاد كعادته، عد الرشمات التي عليها، عشرون. عادة الآباء والأجداد، وعادة الرعاة، وعادة النعاج أيضا. تأملها مليا، ثم أغلق باب الزربية، وبعد أن تأمل السماء مستطلعا أحوال الطقس، اتجه إلى البئر، يجر يجر (عفاسه) فألقى بالدلو، وهزه مرات، يتحسس ثقله، حتى إذا ما تأكد من امتلائه، راح، يسحب الحبل، مرة باليد اليمنى، وأخرى باليد اليسرى ,ثم ألقى بإحدى يديه في الماء، فاستطاب دفئه، وتذكر قول أمه، الماء مبارك، يدفأ في البرد القارس، ويبرد في القيظ الحار، لأن الصالحين يسهرون على كل بئر. ثم أسرع إلى برميل كبير، من مخلفات الحرب العالمية مغطى بصفيحة مستديرة، فأخرج منه قدرا من النخالة، حمله في سله عتيقة، واتجه إلى حيث أواني ال************، مزج النخالة بالماء , وانتظر لحظات، ثم صفر، مرات: -مرباح، هبهاب، ويزة. وإن هي إلا لحظات، حتى حضرت ال************ وتفرقت على آنياتها، تنهش وتزمجر، وتعلن عن غبطتها بأذنابها، توقف هنيهة، ينظر إليها بإشفاق، فعما قريب، سينفذ فيها أمر المجاهدين وتذبح. إن المجاهدين، كالصالحين، كلهم خير وبركة، لكن ما دعوتهم بال************؟. ثم فتح باب منزل عمه، وتدلف إلى الداخل، حي الضرائر الثلاث، إلا إنهن لم يجبنه، خصومة ولا ريب في غياب الزوج، الأطفال يبكون، علامة الخصومة، ربيعة ليست في الباحة، يقين إنها في فراشها تبكي، لأنها سبب الخصومة، ليتهاتطل، فيودعها بنظرة عطشى، ثم ينصرف. -خالتي (عوقة) ها أنني عدت هل تأمرين بشيء. خاطب خالته، الضرة الكبرى، رافعا صوته لتسمعه ربيعة، فأشارت خالته بيدها، ان أنتظر، ثم دخلت بيت المؤونة، غرفة نومها وعادت بصحن قصديري ملفوف في منديل بالي: -قليل من ( بوهزة) ( ١) لأمك قل لها ,خالتي تسلم عليك كثيرا سمعته ربيعة، فنهضت من فراشها ووقفت في الباب، محمرة العينين , - - - - - - - - - - - - - - 1)بوهزة) نوع من الجبن، يصنع من اللبن والحليب، ويستمر كاملا لسنة يشبه بكثير أجبان ) ( الأوروبيين. على خديها دمعتان، وعلى شفتيها بسمة ود، تأملها بعينين متبتلتين، عما قريب تغلق الخامسة عشرة، تريبتي، كما تقول خالتي وأمي، ثم استدار حين ولت ببطء، وأغلقت الباب، ما أبلغ حب ابنة الخالة حين تكون ابنة عم. -تصبحين على خير يا خالتي العزيزة. -تصبح على خير يا إبن أختي. حي في طريقه عمه، الذي عاد في العربة الخشبية، يمهل الجياد، متقدما الخماسة، وهم يسوقون البغال العائدة بالمحاريث الحديدية، في أعياء باد، ثم واصل طريقه نحو الكوخ في المنحدر. درر، درر، الليالي السود ماتت، البيضاء تقول للبيضاء، والسوداء تقول للسوداء، الليالي السود ماتت، درر، درر بع، بع. من يستنطق النعاج وتنطق له ,بالغ، راشد، يجب عليه الصيام، كمن يثنى حيطًا، ويديره بعنقه، ثم يفتحه ويمسكه بأسنانه، ويمرره على رأسه، فهو بالغ. الرأس تدخل في الخيط، والنعاج تنطق، السنة الماضية، صام خمسة عشر يوما فقط، وهذه السنة ينبغي أن يصوم شهرا. إنه رجل بالغ، ولو أن وجهه بدون شعر، رغم أنه يمرر عليه كل ربيع الفراشات المختلفة الألوان ,ليخلف زغبها الشعر، كما يقول كل الرعاة. وربيعة أيضا امرأة بالغة، فصدرها لم يعد مستويا، بل نبتت فيه رمانتان جميلتان منذ السنتين الفارطتين، لقد صامت السنة الماضية، كامل الشهر. بلغ الكوخ، وكان الظلام قد ضرب أطنابه، فسربل الكون ,واستقبلته أمه، على ضوء القنديل المدخن، بابتسامات السرور،وسارعت تعينه على نزع(عفاسة) الجاف ثم قدمت له ماء ساخنًا، وضعت فيه الملح، ليغسل قدميه، بينما كانت(معوشة) أخته تواصل غزل صوف خالتها. -خالتي تسلم عليك، هذا شيء من (بوهزة (أرسلته إليك. -يسلم عليك وعليها بالخير، حسنًا فعلت بإرسال(البوهزة (فإن عشاءنا بلا (بياض)( ١) ولا ) (كليلة)( ٢ معوشة، يامعوشة، ضعي الصوف من يدك ,وأيقظي أختك فالعشاء جاهز، وأخوك ينبغي أن يستريح. ما إن أتم العشاء، حتى أخرج المزمار من قلنسوة برنسه، عانق أخته الصغرى (توتة) ورجاها أن ترقص له، تمنعت قليلا ,ثم نهضت وتحزمت بمنديل مدته لها معوشة، ثم قالت في خجل: -هيا. مرر لسانه على المزمار يبلله بريقه، وتساءل مبتسما أي (هوى) تريد، وعدد بعض ألحان محلية(الهوى نالروس)، صالح أو عمي) (حوست بلاد السقنية وجبل أوراس) طيطة يا طيطة). هذا هو "الهوى" الذي سيروقك ولاشك ثم أغمض عينيه وأرسلها، نغمات جذلة راقصة، بينما كانت أمه تنظر إليه في إعجاب وود، وتتمتم وعيناها مغرورقتان: -نسخة طبق الأصل عن المرحوم، أبيه، يطرب، ويحزن من الأعماق.حفظك الله يا ضياء عيني. ما أن تم اللحن ,حتى ارتمت عليه توتة حيية منتشية، فعانقها، - - - - - - - - - - - 0)البياض هو الحليب. ) 2)الكليلة نوع من اللبن المجفف. ) ثم حملها إلى الفراش، فلحقته أمه، ثم أخته الكبرى معوشة، وانطفأ القنديل وتمددوا،وبينما راح يتساءل في نفسه: -يقول الرعاة أنهم لا يغلبون، يسيرون في الليل وفي النهار، ويمرون بكل مكان، ولكن لا يستطيع أحد أن يراهم، هؤلاء المجاهدون من يكونون ا لقد تحدث معي اليوم غريب، ما أظنه إلا منهم .آه، لو يعود غدا. ألحت توتة على أمها، أن تفي بوعدها، فتروي لها أسطورة. نامي يا ابنتي، فإن (الباهي) أخاك تعب، ويجب أن ندعه يستريح، إن المسكين ينهض قبل العصافير، ولا يعود بعدها. -قصي لها يا أمي، فإنني لا أشعر بالنوم. -قلت لي أنك ستقصين علي قصة(بحباح المرتاح( -آه (بحباح المرتاح (ياعزيزتي، جرو صغير، قصير القامة، أرقط اللون ماتت أمه المسكينة ليلة ولدته وسط الثلوج والزوابع فاحتضنته جدته(ملحاسة) لتسهر عليه، وتتولى تربيته، وكان ذلك في زمن المناطق،حيث كل الحيوانات والأشياء تنطق. ولما كانت تحبه، حبا جما، لأنه حفيدها الوحيد،وآخر ما تركت المسكينة ابنتها في الحياة، فإها لم تستطع أن تحسن تربيته،وافسدته بالدلال. فقد كان (بحباح) كلما رغب في شيء لو كان صعب المنال، على جدته(ملحاسة)، يبكي ويحك أقدامه على الأرض،ويرفض الطعام. -المجاهدون، قرروا ذبح كل ال************. ردد الباهي في نفسه، وتذكرت معوشة، انها نسيت أن تبلغ أخاها الأمانة التي أرسلتها له ربيعة، قارورة عطر صغيرة جميلة، بينما قاطعت توتة أمها: -إنك قصصت علي كل هذا، لقد وصلنا إلى قص ذيل (بحباح المرتاح)، حين لم يعد باللبن الذي أرسلته جدته ملحاسة في طلبه. -آه. حسنًا، لما لم يجده البكاء واستعطاف جدته رضخ لشرطها، وغادر العريش، حاملا حلاب اللبن، وهو يشعر بالخجل لأنه بلا ذنب وعيناه متورمتان من كثرة البكاء والعويل، وكان الندى قد بلل الأعشاب والحشائش فلما بزغت الشمس، تلألأت أشعتها فوق الروابي، فراقه المنظر رغم حزنه الشديد على ذيله، وخوخة من عدم العثورعلىاللبن فلا تعيد إليه جدته ملحاسة الذنب ويسخر منه الأولاد في الأعياد وخيل إلهيه وهو يتأمل منظرلمعان أشعة الشمس على قطرات الندى إنه أمام بحر من الفضة، حتى كاد أن ينسى مهمته، إلا أنه لما أراد نش ذبابة لسعته، بذيله ولم يجده تذكر المصيبة التي ألمت به، ومهمته التي حمل الحلاب، وخرج من أجلها. تساءل بحباح المرتاح أين يذهب، فلم يقابله إلا قريب جدته، الذي زاره في السنة الماضية، يوم العيد، وفي الطريق ظل يمني نفسه، بأنه سيجد ما يحتاج إليه من اللبن، وبأن جدته حين يعود إليها بالحلاب مملوءا ستعيد إليه ذيله بسرعة، وترضى عنه، وتكف عن هذا الغضب. ولما أبصر قريب جدته، متكئًا أمام عريشة، يستنشق هواء الصباح النقي، ودخان العرعار ينبعث من خياشيمه، فرح واستبشر وبأدب واحترام فائقين.حياه، لكنه لم يرد إلا بنفث الدخان في عينيه، ومع ذلك، لم يغضب أو يسئ الظن، وقال له بلهجة فائقة: -جدتي تقرئك السلام، يا عمي قريبها -ثم ماذا؟ -إنها ما تزال مريضة. -مسكينة، ملحاسة قريبتي. -وهي ترجوا أن ترسل إليها شيئًا من اللبن. -لكن أين ذيلك؟ -نسيته في العريش، فأنت ترى، يا عمي قريب جدتي،أنني استيقظت مبكرا جدا. ضحك الكلب الهرم، ضحكة كشفت عن كل أسنانه القذرة، وأغضبت بحباح المرتاح، لأنها سخرية بادية، إلا أنه كتم غيظه، وقال لقريب جدته: -إذن، لا تعطيني اللبن، يا عمي قريب جدتيى -ويحك أيها المسكين المغفل، أتظن أن الثمن الذي ستدفعه لجدتك، مقابل ذيلك الجميل، رخيص إلى هذا الحد؟ ابتعد عني، ولا تعد إلي أبدا، حتى تسترجع ذيلك. قال ذلك الكلب الهرم، وهو يكاد يعمى بصر الصغير، بحباح المرتاح بالدخان، فلم يكن في وسع المسكين أن يفعل، غير مغادرة المكان، خائبا ذليلا حزينًا. لو كان يعرف فكرة أخرى، لسعى سعيا آخر، ولكنه يجهل كل شئ، فما العمل يا ترى؟ آه ما أقسى قلب جدته ملحاسة، وما أقسى أيضا قلب قريبها، هذا الذي يسخر منه، دون شفقة أورحمة. -مسكين أنا. قال ذلك، ثم وقف يفكر، وبعد لحظات رأى عنزة ترمق أغصان شجرة مورقة، وتتمنى من صميم قلبها لو تبلغها ,فتشبع وتتخلص من الجوع الذي تعانيه، قصدها وقلبه يحدثه خيرا، ولما وقف أمامها، بكل احترام حياها بأدب وقال لها: -يا عمتي العنزة هل تصنعين جميلا، فتعطيني حليبا، والحليب لجدتي وجدتي كي تصفح عني، وبعد أن تصفح عنى ترد إلي ذيلي الجميل فلا يسخر منى الأولاد في الأعياد. حدقت فيه العنزة.ثم قالت: -ليتني أستطيع أن أصنع معك هذا الجميل، فأنت صديقي، لأنك حين تكبر، ترد الذئاب عن أبنائي وتحفظهم، ولكنك ترى أنني هزيلة وليس في ضرعي قطرة من الحليب ,أذهب إلى الحقل، وحضر لي قسيلا لأعطيك الحليب. أوصاها بحباح المرتاح بالانتظار حتى يعود بالقسيل، ثم أم حقلا قريبا من هناك، ووقف أمامه قائلا، بعد أن حياه: -ياعمى الحقل، هل تصنع جميلا ,فتعطيني قسيلا، والقسيل للعنزة، والعنزة كي تعطيني حليبا، والحليب لجدتي، وجدتي كي تصفح عنى، وترد إلي ذيلي الجميل، فلا يسخر مني الأولاد في الأعياد بحلق فيه الحقل كثيرا، ثم قال: -أيها المسكين، هل تظن أنه يحصل شئ بدون عمل، إنني عطشان كما ترى، فاذهب، وأحضرلي ماء يرويني، أعطك ما تشاء من القسيل. أوصاه بحباح المرتاح بأن ينتظره ، حتى يعود بالماء، ثم قصد عينًا جارية وقلبه يقول له هذه المرة، بأن ساعة الفرج قد دقت، لأن العين ليس لها كما يبدو ما تشترط عليه،ولما وقف أمامها وحياها، قال لها: -يا عمتي العين، هل تصنعين جميلا، فتعطيني ماء، والماء للحقل والحقل كي يعطيني قسيلا، والقسيل للعنزة، والعنزة كي تعطيني حليبا، والحليب لجدتي، وجدتي تصفح عنى،وبعد أن تصفح عنى ترد إلي ذيلي الجميل، فلا يسخر منى الاولاد في الأعياد. فكرت العين قليلا، حتى ظن بحباح المرتاح، أنها ستقول له خذ ما تشاء يا عزيزي، لكنها لم تقل ذلك أنما أجابته: -أيها المسكين، أو تظن أنه يحصل شئ ,بدون عمل وعرق؟ إنني أعطيك الماء، ولكن أنت ترى أنني لا أستطيع أن أصعد بالماء إلى الحقل، فاذهب واحضر فأسا، واحفر ساقية ليجري فيها الماء، وأنا أعطيك ما تريد. أوصاها بحباح المرتاح كذلك، بأن تنتظره حتى يحضر الفأس، ويعود، ثم ذهب إلى حداد، حياه بكل أدب ثم قال له : -يا عمي الحداد، هل تصنع جميلا، فتعطيني فأسأ والفأس كي أحفر بها ساقية، والساقية كي يجري فيها الماء، والماء للحقل، والحقل كي يعطيني قسيلا، والقسيل للعنزة، والعنزة كي تعطيني حليبا، والحليب لجدتي، كي تصفح عني وبعد أن تصفح عني، ترد إلي ذيلي الجميل، فلا يسخر منى الأولاد في الأعياد. فكر الحداد لحظات، ثم رفع بصره نحو بحباح المرتاح، وسأله: -أيها المسكين، ما اسمك ؟ -اسمي بحباح المرتاح، ابن جدتي ملحاسة. أجاب فرحا ,لأنه أعتقد أن الحداد، سيعطيه فأسا تعب عليها كامل يومه بدون مقابل، لكن الحداد أضاف قائلا: -أيها الغبي، أو تظن أن هناك شيئًا يحصل بدون عمل؟ إسمع، إنني لا اطلب منك أن تحضر لي حديدا من المنجم، كي أصنع لك فأسا، لأننى أعرف أن ذلك صعب عليك جدا، لكن هل تستطيع أن تعمل عندي أياما حتى أجد صانعا؟ -العمل، العمل ,لا شئ بدون عمل، لاشئ بدون عرق، الجميع يرددون هذا، العمل، العمل. فكر بحباح المرتاح في نفسه، ثم راح يقلب النظر، في اقتراح الحداد ويدرسه بدقة وإمعان. لم يسبق له أن عمل او عرق، رغم أنه ليس جرو غنى يدلل ال************، ويؤذي الخماسة والعمال. -أمي، أمي،اسكتي.إنني أسمع حركة غير عادية. قاطع الباهي أمه، وهي مستغرقة في سرد الأسطورة، لا لتوتة التي نامت منذ مدة، ولامعوشة، فهي أنثى، ستغادرها ان آجلا أو عاجلا إلى بيت زوجها، وربما تكون ضرة على واحدة أو اثنين، أو ثلاث، وربما ينجيها الله من الضرائر، وجهنمهن، لكن يبتليها بحماة شريرة، تعذبها أشهرا ثم تسحرابنها فيطردها،انما تسردها للباهي،الباهي الذكر الوحيد في البيت، الذي يعولهن، ويبسط جناح الاطمئنان على قلوبهن، لقد قصتها عليه منذ بدأ يفهم الحديث، واعادتها على مسامعه أكثر من ألف مرة، لكن الدوام يثقب الرخام، ودروب الأطفال، مهما رسمت بمعالم الرجولة، فإنها تظل غير آمنة، حتى يكونوا رجالا حقيقيين، الباهي رجل، رجل منذ مات المرحوم والده بالتيفوس،رجل وعمره لا يتجاوز العاشرة.واليوم وقد مرت خمس سنوات، على مواجهته للحياة ومشاقها،لاتخصه سوى، سوى امرأة. -ترى ياربيعة يا بنت أختي، متى أراك عروسا بين أحضان الباهي إبني، لقد "سما كما" أبو كما على بعضكما،ليلة بروزكما للحياة، باقتراح من المرحوم، غير ان والدك ما يفتأ يتغير، يكبر ويكبر،بينما نضعف ونضعف، ابناؤه يرسلهم الى القرية ليقرأوا، بينما ابناءاخيه يرسلهم لرعي اغنامه، وهذه الايام فاجأني يطلب تزويج معوشة المسكينة من (العربي') خماسه، العربي رجل على كل حال،ولاعيب في العمل مهما كان،فكلنا خلقنا خماسة،لكن معوشة"مسمية" على ابنه الاكبر مجيد. ولايهمني من امر هذا التحول،غير تخوفي،من ان يمنع عنا ابنته ربيعة. آه،يا الباهي يا ابني متى ترشد، وتزول عنك وصاية عمك، وتحاسبه امام القضاة، قبل ان تفلت ربيعة من يدنا. خطر للأم، وهي ترهف سمعها، للحركة غير العادية التي نبهها ليها الباهي فلم تسمع غير قرقرة الضفادع في الوديان، وعواء الذئاب في الغابة، وأصوات صراصير متقطعة، ونباح ************ مركز على الجبهة الغربية،على الدرب الهابطة من الغابة. بينما وثب الباهي من فراشه،بعد أن أبعد عنه توتة التي كانت تلحفه بأنفاسها،فيستشعر الحنان، تلمس في الظلام عفاسه، فاوثقه في رجليه بسرعة، ثم تناول(البوسعادي)( ١)، من تحت الوسادة، وعلقه في كتفه فوق البرنس. -إلى أين ولدي العزيز. تساءلت أمه وقلبها يهتز طربا، ممزوجا بتخوفات مبهمة، فأجابها: -لأرى ما هنالك يا أمي. -لا شئ يأ بني،ربما العساكر، فقد كثر خروجهم في الليل، هذه اللأيام، أن مابدأ يتحدث به الناس منذ شهرين، أخذ يكدر الصفو بعض الشئ، عل أية حال اخرج لتتعلم الحراسة، واقتحام الظلمات ,اصعد على الكوخ كما كان يفعل المرحوم أبوك، وراقب ما يجري، انك غير مسلح يا الباهي ياولدي، اتل آيات الكرسي قبل أن تخرج . - - - - - - - - - - - - - - 1)نسبة الى مدينة بوسعادة، وهو خنج في شكل السيف، وله غمد جلدي جميل، لايغادر ) الريفيين. تلمس الباهي طريقه، حتى غادر باب الكوخ، ثم أرهف سمعه، وهو يتأمل السماء.. نباح ال************ يشتد في الجهة الغربية، ويقترب شيئ فشيئًا من منزل عمه، والسماء صاحية، بيضاء، يقطر منها الجليد.. وفكر أن يصعد فوق الكوخ ويراقب، كما قالت أمه، لكن الكوخ بعيد عن منزل عمه، وهو لايستطيع أن يرى، أو يسمع شيئًا، ال************ منشغلة، وفي الامكان بلوغ المنزل قبل وصول هذا المجهول، الذي يدفع ال************ لتتأخر ,ثم يتقدم وكأنما هو غير مبال بها .. وبسرعة، أنطلق ينفذ قراره، متجنبا حقل المطامير، فبعضها لا يزال مفتوحا، بعد أن أخرجت منها الزريعة، وقد يقع في أحداها، كما تجنب كلالدروب التي يمكن أن توضع فيها كمائن، فاللصوص، من عادتهم ان ينصبوا(مجبودة) لل************، فيشغلها بعضهم في جهة،بينما يتسلل بعضهم إلى أهدافهم. وما أن وصل منزل عمه، وارتمى بخفة في زريبة الأغنام، متخفيا في زاوية ,من نور القمر الذي بدأ ينبعث من خلف الغابة، حتى انقطع نباح ال************، بعد عويل مؤلم انبعث منها. -ال************ ماتت، لم ينطلق أي رصاص.. يقين أنها رميت بخناجر، من أيد ماهرة . .. وانبعثت جلبة من حوله، المنزل مطوق، بغلان على ظهريهما جثث، يقفان بعيدا، الباب يدق.. أحدهم يثب الى الزريبة، ويتخفى وراء نعجة سوداء، مد يده إلى البوسعادي، واستله في حذر .. . لا يستطيع وحده أن يهاجم كل هؤلاء، لكن في إمكانه على الأقل، أن يدافع عن نفسه، فيسقط واحدا أو اثنين .. صفر عمه من الداخل، مستنجدا بال************، ثم تساءل: -من؟ -المجاهدون.أخرج لنا بسرعة. تباطأ عمه، فطرق الباب بعنف من جديد، وعاود الشبح الذي يقف إلى جانبه متسربلا في (قشابية (رمادية، وفي يديه بندقية سوداء، أمره: -المجاهدون.أخرج لنا بسرعة. ولما خرج عمه، يرتجف رعبا، خاصة، حين فوجئ بالبندقية السوداء، فتش في الظلام، عن مصدر البندقية، ثم واجهه، متسائلا: -ماذا تريدون عندي؟ لم أرتكب أي شئ …إنني مستعد لدفع الاشتراك.. مرحبا بكم. في تلك اللحظة، لاحظ الباهي، تقدم شخص مسلح، نحو زاوية الدار، سوى هندامه وسلاحه، ثم مر أمام عمه، في شبه استعراض، فوثب الشخص الذي كان يربض في الزريبة، وسارع بحذر إلى الزاوية التي انطلق منها صاحبه، وانتظر قليلا، ثم انطلق هو أيضا مارا أمام عمه، وأعقبه ثالث ورابع، وخامس،وو…لفت انتباهه، تشابه الأاشخاص في قامامتهم وألبستهم، وحتى في مشيتهم، وتأمل خطواتهم، وتذكر أن الرعاة يقولون، انه لا يوجد شخصان في الدنيا، يتشابهان في سيرهما، وان ارتديا نفس الحذاء ,فعجب لهذه الحركة الغريبة، ورفع رأسه يتطلع في فضول حواليه، فلم يجد سوى ثلاثة أشخاص، يدورون حول المنزل في رتابة، أكثر من مائة مرة. وحين بلغه صوت الشبح الذي يواجه عمه، مخاطبا، الجندي المارأمامه. -حسنًا، إعط الأمر للفيلق، بالاتجاه نحو الجبل، بعد أن تختاروا فرقة الحراسة، وتوزعوها باتقان على كامل الجهة لمحاصرتها. ابتسم، وتمنى لو كان طويل القامة، فيستعرض مع هؤلاء المجاهدين ليكثف العدد، وينبهر عمه أكثر.. ثم راح يصغي للحوار، الذي ي
عدل سابقا من قبل Admin في السبت 25 يونيو 2011, 17:52 عدل 1 مرات | |
| | | karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: رد: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 12:40 | |
| السباق تثاءب، ثم تثاءب ,وتمطط ثم تمطط، وتلوى يمينًا، كما تلوى شمالا، وحاول أن يرى نفسه، كما لو كان كسولا، يضرب المثل بكسله .. لكنه، يعرف جيد المعرفة، أنه محروم من تلك النعمة ,التي أنعم بها الله على كثير من خلقه المحسودين، فهو ليس بالغنى، ولا بالطبيب أو المحامي، ولا بمطرب، أو عضو في الح******.. . مع ذلك، لا بد من إعادة الاختبار، فمن يدري لعله، أصبح بين البارحة واليوم، كسولا من الصنف الممتاز. فأعاد التثاؤب، والتمطط، والتلوي.. ورغم خيبة أمله، فلا ينبغي أن ييأس على أية حال، أو يقطع حبل الرجاء.. وربنا كريم، ورحمته واسعة . .. الكسل، داء ينهك الحياة، وجرثومة تنخر البقاء.. لكن القليلين، هم الذين يعرفون، أنه مع ذلك دواء هام وناجع، لابد منه للأشخاص الذين يتقدون نشاطًا وحماسا، ليلا نهارا.. لكن لايجدون ما يصرفون فيه ذلك النشاط، وذلك الحماس، تلك الطاقة الانسانية الكبرى، التي بدونها، لايمكن أبدا، أن تتفتت الجبال، لتستوي الأرض .. وهذا بالضبط ما حمل(ع ّ لاوة) أكثر من مرة، على إعادة التفكير في الكسل؟ وتمنى التنعم به في يوم من الأيام.. وقد بات على يقين من أنه يحل العديد من المشاكل.. والتجربة تدفعه أكثر إلى الاقتناع بهذا الرأي.. فعم محمد، زميله في المقهى التي طرد منها أخيرا، كان كالباي أو السلطات، أو الطبيب ..لايبالي بالدنيا ومن عليها.. في حين كان هو، عرضة للعنات ال******ائن، الذين يسوؤهم، أن يعرض عليهم المرء، خدماته، قبل أن يطلبوها منه.. حتى تم أخيرا المصاب الأكبر، ووقعت الواقعة. جلس ******ون محترم.. محترم على كل حال، فلحيته حليقة، وبدلته، مكوية، وحذاؤه لامع، وفوق هذا وذاك، فطربوشه الأحمر، لا تتحمل حاشيته أي أثر للعرق، مما يدل على أنه لا يتطربشه، إلا في المناسبات.. محترم وهذا كل ما في الأمر، بقطع النظر، هل في جيبه ثمن قهوة أم لا.. فبادره علاوة، بعد أن مرر قطعة القماش المبتلة، على المنضدة، يمسح ما قد يكون علق بها من الغبار: سيدي . حاجة ؟ -أعوذ بالله. -من الشيطان الرجيم.. سيدي، أريد خدمتك لا غير .. -ماذا ماذا ؟ تشتمني فوق ذلك؟ تشتمني؟ ا هيه. مازلنا نرى ونسمع . .. علا صراخه، واحتدت زمجرته، واختلط هديره، فتدخل ( المعلم( -ماذا؟ ماذا ؟ -أهذه مقهاكم؟ أهذه معاملتكم لل******ائن المحترمين؟ نحن الذين نستحق كل هذا، لأننا نحمل أنفسنا ونأتيكم. -ماذا حصل ياسيدي؟ المعذرة.. العفو .. -هذا الوقح.. صانعكم ..شتمني، ولعنني.. زوجي طالقة، إن عدت إلى هذا المكان مرة أخرى. ولم يهدأ له بال، حتى سمع وقع الصاعقة: -علاوة.أخرج الآن.. بالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، عالم الغيب والشهادة، أن تخرج الآن.. موتوا تحت الجدران، أيها ال************، فلا ينفع فيكم خير أو معروف.. أخرج الآن، قلت لك الآن.. وبالله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم.. لن تضرب فيها ضربة أخرى.. ولن يدخل فرنكي جيبك منذ اللحظة. اغرورقت عيناه، واعتصر قلبه، ودارت به الأرض سبع دورات واصفرت الدنيا واسودت.. . لكن كل شئ انتهى . .. *** إذا كان الكسل دواء.. مرهم للعامل.. فإنه لن يكون إلا كذلك الذي لا يجد ما يفعله، سوى السير.. . والطفو في الحياة، كخشبة على سطح الماء ..ومسألة الكسل، في الحقيقة وواقع الأمر، أضحت تطرح على (علاوة) كالأمل بالنسبة لأولئك السعداء، الذين لا ينفك النور، يشع على مستقبلهم. فقد مر أسبوع كامل، بلياليه الطوال، وبأيامه العريضة الثقيلة.. وهو لا يجد ما يصنع بنفسه، التي ينظر إليها، على أنها، هذه العضلات القوية، والسواعد المفتولة، وهذا النشاط، وهذه الحيوية، وهذه الجذوات، المتقدة الملتهبة. دار على محطات القطار، ومراكز عربات الركاب.. على كتفيه حبل غليظ، يعرض على المسافرين المثقلين بالبضائع، مساندتهم مقابل إعانة بسيطة يمدونه بها.. واستطاع أن يحصل على ثمن ما يسد به رمقه من خبز وزيتون.. أقصى ما يطمح إليه كل عاطل. إلا أن حالة الحمالين مزرية.. مزرية بشكل فظيع. القطار لا يأتي، إلا بعد ساعات طويلة متباعدة.. وباقي الوقت، يتحتم أن يقضيه الحمال في البحلقة، في لا شئ كالأبله.. وفي سماع حكايات جوفاء، لا طعم لها ..وفي نش الذباب عن المنخرين والشفتين، والعينين. علاوة، لا يستطيع القمار، وغير مستعد لخوض المعارك الدامية، سواء ربح أم خسر.. كما لا يستطيع مروادة الغلمان. كلا.. هذه الحياة لا تطاق : اللعنة على هذه الحياة ظل كامل النهار، يتمتم بالرفض واللعن.. وفي صباح اليوم التالي بذل آخر الجهود، في سبيل العودة إلى عمله.. وسعى بعض السعي، ليتوسط بينه وبين صاحب المقهى. لكن المعلم صمم أن لا يرى وجهه مرة ثانية في مقهاه، فالفرص التي تواتيه، لطرد العامل، قبل تسجيله في الضريبة، أو التحاقه بالنقابة، لم يكن من عادته إضاعتها.. والنخالة تجلب ال************.. . والسوق عامرة بالع ّ لاوات. سعى كذلك للإلتحاق بغيرها، من المقاهي المتراكمة المتبعثرة ,في كل زاوية وبطحاء وساحة ومنعرج، لكن . .. الخيبة المرة، كانت باستمرار تلازم مساعيه .. خطر له أيضا، أن يحاول اللحاق بإحدى الادارات، فهو لا يصلح إلا فراشًا، يدخل ويخرج على المكاتب، يشتري الأكل والمشروبات للموظفين، ويقدم ملايين الخدمات لزوجة المدير وابنته وكلبه وسيارته وحديقته . .. لكن السخرية ,التي أثارها على نفسه، بهذه الخاطرة، كانت كافية لتقبرها إلى أبد الآبدين.. دون أن يسمح بها أحد . .. فلكي يدخل المرء الإدارة، ينبغي أن تكون له( أكتاف) فرعون أو شمشون الجبار.. أوعلى الأقل، تكون أخته في جمال الجازية. أخيرا، جمع، رأسمالا متواضعا، اشترى به تذاكر(التروليبيس) واتكل على الله.. . باعها، ثم اشترى أخرى فباعها، وظل كامل اليوم يبيع ويشتري. والحق، أنه وجد عزاء، وأيما عزاء، في هذا العمل، الذي كله نشاط، وكله حيوية، وكله حماس واتقاد. حتى أن النهار، مر بسرعة البرق، دون أن يكاد يتفطن إلى أنه مر . .. فالميدان، ميدان مزاحمة جدية.. تتطلب تجنيد كامل قوى المرء، ويكفي ان عدد الخصومات فقط يزيد على المائة . .. -أمي تذكرة . .. ويفكر أنها ستخرج الخمسة والعشرين مليما، تدفعها له، فيجني منها خمسة مليمات ربحا .. -أنا قبلك. -لا. أنا .. -لا. أنا قبلكم جميعا . .. وتنطلق الحافلة، وتدور رحى معركة طاحنة، ويتدخل الشرطي وتحل حافة أخرى . .. -عمي تذكرة . .. -عمي تذكرة .. ويلتقف الجيب الملاليم، ويتلقى الوجه لكمة . .. -بلا أمك.. تأتي بالخمسة وعشرين.. فأنا قبلك . .. الحوت يأكل الحوت.. . وقليل الجهد يموت.. . وتلتقف سيارة الشرطة(مسعودة) واحدا أو اثنين، وينزل إلى الميدان عاطل أو اثنان، وتحل الحافلة وترحل . .. -الميدان واسع خصب، حي رغم قلة الربح.. بيد أن الخطورة (مسعودة)، جلسة استعجالية.. الحبس.. . الظلام . ..البطاقة رقم ٣ تتلوث.. . ستة أشهر سجن.. . لاحتراف البطالة اللصوصية البطاقة صالحة لثلاثة أشهر.. سلمت بطلب منه . .. ألف لا. لن يعود إلى هذا الميدان ,الخصب المشؤوم، لن يخاطر بنفسه، لن يموت جيفة، لن يدفن حيا .. . قرر ذلك، ثم تثاءب، وتمطط، وتلوى وتلوى، كما لو كان ( عم محمد) الذي يحسده ويمقته، ويتمنى في نفس الوقت لو كان مثله، ليسعد بقلة الإجهاد في العمل، وبعدم الطرد، أكثر من ذلك. كان يجهل أن (عم محمد) لا يبيع القهوة والشاي لل******ائن، فقط، وإنما قراطيس الحشيش، والعفيون، التي يظل المعلم، منهمكًا في تنميقها. وبكر.. يندفع متقاذفًا ,متدحرجا، خارج حجرة، وراح يطفو في الحياة، كما لو كانت الأمواج، هي التي تتقاذفه، وتدحرجه، وكما لو كان قطعة خشب مسوسة، وثقل الماء، هو الذي جعله يطفو، ويطفو .. لم يكن هنالك، حطب.. عمل، يلهبه فيتقد به.. ولكن بالرغم من ذلك، لم يخب ولن يخبو، كما يبدو.. . وفوق هذا وذاك، فان بعض الاطمئنان يراوده.. في جيبه بقية من نقود، لن تتركه بلا قوت أياما أخرى.. يستطيع أثناءها، إلقاء نظرة عامة على الحياة. عله يستشف فيها، ثغرة يلج منها.. . فهو لا يستطيع، رغم الرابعة والعشرين سنة التي قضاها فيها، أن يزعم أنه يعرفها، أو يعرف حتى القليل منها . .. الحياة أوسع وأرحب صدرا من أن لا تأوي أحدا.. وما من دابة في الأرض، إلا ورزقها على الله، كما كان يردد المرحوم والده. كانت الشمس تتثاءب، وتمطط بدورها، منشنشة ثوبها السابري الجميل، لتواصل شطحاتها حول الكون، فانبعث في نفسه شبه تفاؤل زاد من حدة نشاطه واتقاده، وشعر بالجليد يذوب من أعماقه مستسلما للثمات الشمس الدافئة.وظنت في رأسه نحلة، لتلد الأحلام اللذيذة . .. حافظة نقود مشحونة، ملقاة قرب الطوار بين كرمة أوراق صفر يرتمي عليها، ويسارع إلى حجره ليعد.. . مال . ..مال.. . ما يكفي لفتح تجارة في كل ركن من أركان المدينة . .. باب صغير، ينفتح في الأرض.. وعذراء جميلة، تشير بيدها، يدخل ولا يخرج إلا بعد أيام، بعربة فخمة، وما تتطلبه من أوراق، وما يكفيه من الذهب بقية العمر، بل ويكفي أحفاد أحفاده. آه. عجوز تطل من الشرفة، يرفع رأسه، فتبتسم له، وتناديه.. يدخل خجلا، فتفتح له صناديق من الكنوز.. وتعرض عليه الزواج يتزوج، إي نعم، ويخلص لها، ويدير أموالها، أموالهما في الحقيقة وواقع الأمر. بل. يعثر على حجاب، فيحمله، ليصبح غير مرئي.. . لكن لا فقد يتحتم عليه ارتكاب بعض أشياء غير.. . لكن ما يضير.. الدنيا مسوسة.. العالم فوضى.. الحوت يأكل الحوت.. وقليل الجهد يموت .. وفي هذه الحال، سيقتل كل الرؤساء الذين يخدمون مصالح الأغنياء و(المعلمين) وسيقود كل العاطلين، والفقراء للاستيلاء على زمام الأمور.. . على الأقل سيقسم جميع الأموال بين جميع الناس . .. تاجر، يقف أمام متجره، يتأمله جيدا، ثم يطلب منه أن يشتغل عنده بأجرة مح************.. لا.. حتى بأجرة متواضعة، كالتي كان يتقاضاها، في المقهى. المهم، أن يبقى المرء عاطلا، يتقاذف في الشوارع كالكلب. ) -تقازة . ..( واستفاق من أحلامه، وتأملها.. لا تتجاوز السادسة عشر.. ربعة القد، يملآ الوشم وجهها وذراعيها، على ظهرها صبي قذر، أحد ثدييها يطل من اللحاف الأسود الذي يلفها، والحليب يقطر. ابتسمت، وابتسم، ودون أن يشعر ناولها يده، ورد على أسئلتها متمتما باسمه واسم أمه . .. -البركة ؟ ومد يده إلى جيبه وأخرج عشرين مليما صدئة. وتذكر أنه أحب ذات يوم(تقازة)، فعاشت معه حتى أنجبت غلاما جميلا، اختطفته واختفت حيث لا يدري . .. -قل اللطف. -اللطف. -وراءك تابعة، وأمامك تابعة.. لم تدع عنك أمك، ولم يسخط عنك أبوك لكنك ورثتها.. تابعة مسنة،عجوز شمطاء.. في عمرها قرون . ..تعرق ولا تلحق.. تأكل ولا تشبع.. تحلم ولا تنام . .. تنظر ولا ترى.. تجري ولا تصل.. اطلب سيدي عبد القادر، وسيدي محرز.. زد قل اللطف. -اللطف. -تبحث عن حمامة طارت منك.. لا تعد التفكير فيها، فلن تراها، ولن ترى قلبك الذي طارت به ..سحرها ابن عمها، فاختطفها خطاف العرايس، وألقى بها في الثلث الخالي.. تبكي مع الجنيات المسحورة.وراءك تابعة وقدامك تابعة.. أطلب سيدي عبد القادر وزر سيدي محرز بن خلف، سيدي بن عروس وكل الأولياء . .. وسحب يده، ومر متقاذفًا، دون أن يعرفها، أو يعرف ابنه، فقد طمس الوشم ملامحها، وظلت تتابعه ببصرها حتى اختفى، فقبلت ابنها ,وانطلقت متثاقلة . .. وجد نفسه في السوق المركزية، وظلت قدماه تنقلانه من حلبة إلى أخرى، تأمل الحمالين، يتزاحمون على السادة والسلع والبضائع، وتأمل الأحمرة مطأطئة تفكر في إمعان.. . وتابع الأوراق النقدية تتقاذف من جيب لآخر.. وبحلق في البسمات تتراقص على الأفواه، والعرق يتصبب على الوجوه . .. وقبل أن يكون فكرة عامة من السوق، استنجد به أحد الحمالين ليعينه على حمل أكياس على عربته الخشبية، ونفحة بقطعة نقدية ذات المائة مليم.. . كان الحمال هزيلا أعرج، لم يؤهله لدخول هذا الميدان الشاق سوى حماره وعربته، ويبدو انه لا يتعامل إلا مع المبتدئين مثل ع ّ لاوة، فقد ظل دقائق قبل أن يناديه يرفض عروض بقية الحمالين .. الحوت يأكل الحوت، وقليل الجهد يموت . .. فكر، ثم قفل راجعا إلى المدينة، وهو لا يدري بالضبط، لماذا ولا أي مكان منها بالذات يقصد. الدنيا بخير، التجارة رائجة حية، الإمكانيات متوفرة.. اشتر وبع ثم اشتر وبع، واجمع النقود، وقتر على الحاملين، وتعرف على التجار، وصاهرهم، وتحدث معهم في السياسة، وانتقد الحكومة، وذم إدارة الضرائب ,وأرسل السلال والهدايا إلى طباخي الوزراء.. وسافر كل سنة إلى الحج، وعد بكميات من الذهب، وفي الصيف، أكتر منزلا على الشاطئ. واختر لزوجك وابنتك وصيفًا قويا، حتى لا تخونانك مع الأصدقاء.. وانهمك أنت في المغامرات مع أخت زوجتك، خطيبة الموظف الذي ينتظر الترقية منذ سنوات، وتبرع على الكشافة والجمعيات الخيرية بما تيسر.. وحين يتقدم ضابط لخطبة ابنتك، أشعره بأنك وعدتها بإهداء سيارة جميلة . .. الدنيا تجارة.. بيع وشراء.. . ربح، ثم ربح .. لا. لن أكون قذرا، ولن أهضم حق حمال، ولن أكون ديوثًا. فقط، أفرض نفسي، وأضمن لها الاحترام والخبز.. . وسأنكب على القراءة، حتى أصير عالما، وأعتكف في جامع الزيتونة، ومسجد سيدي محرز، وأزور كل الأولياء، وأسخر كل السحرة المغاربة لإنقاذ زوجتي وابني من الثلث الخالي، حيث تبكي الجنيات المسحورات وأتخلص من التابعة . .. آه، التابعة . .. وهم أن يلوم نفسه، على عدم توفير رأسمال، فلم يدخر لأيامه السود ما جمعه في الأيام البيض.. لو لم يتذكر ما كان يتقاضاه من أجرة، والأبواب التي كان ينفقها فيها.. . أكل متواضع ..لباس أقل من المتواضع، كراء فاحش يتراكم من شهر لآخر . .. هذه التابعة ما هي؟ عجوز، شمطاء عقيم، في عمرها آلاف السنين، ورثتها عن أبعد جدودي. ليست سوى الخيبة فيما يبدو لي.. . قد تكون الفقر المدقع.. . بل لعلها النشاط والحيوية . .. ليست سوى البطالة فيما أعتقد . .. النساء اللعينات يعرفن(التابعة) وهذه) التقازة) من أمهر التقازات وأكثرهن اطلاعا على الغيب.. كان صوتها ينزل في قلبي، كأشعة الشمس، بل، كقطعة لحم مشوية . .. يقين أن صوت التقازات ليس غريبا عن آذاننا.. فهو صوت الغيب .. وفي قلب المدينة، طاف بمعظم المطاعم، عارضا نفسه للعمل، بأي ثمن، لكن دون جدوى، فاشتد به الضيق، اشتداد الهاجرة، وتصبب العرق من كامل جسده، وأنهكه الأعياء، الذي تحالف معه، التفكير العقيم.. . ثم وجد نفسه أمام مثواه.. . ثغرة في الجدار، لا تتميز عن أي جحر، سوى بباب وبكراء،كان فيما مضى محتملا.. أما الآن .. آه.الأخرى، أن يغض المرء عنه الطرف. ولو إلى حين . ..فالمصائب ينبغي أن لانفكر فيها دفعة واحدة . .. بعد أن استلقى علاوة على فراشه ..ألواح صناديق.عليها، لفائف من ورق سميك، وغطاء متهرئ، إلى جانب معطف عسكري يستعين به على برد الشتاء القارس.. . استسلم لحمة حمقاء، من التفكير والهواجس.. . طارقًا جميع المواضيع . .. السوق المركزية.. . ربح شراء، وبيع.. ربح.. التجارة ينبغي المال، الرأسمال.. . التابعة البطالة . .. وتلمس جيبه، وتحسس قطع النقود الصدئة.. وزفر من الأعماق. تذاكر(التروليبس).. بيع شراء.. شراء بيع.. . وثبه هنا أخرى هنالك، العمل من الصباح الباكر، حتى منتصف الليل.. . بيع شراء ربح.. . خصومات خصومات . .. آه.. قبضة الشرطي، ومسعودة، والسجن، والبطاقة رقم ٣ كراء المنزل، ينبغي أن يسدد بعد غد... دينار كامل... من أين يأتي؟... هذه المسألة ينبغي أن لا تطرح اليوم... رباه…كل شئ يطاق، إلا أن لا يكون للمرء جحر يخفي فيه رأسه.. . يبكي فيه، ويفلي القمل. *** الحياة عفنة، غير مرتبة، والناس على قسمين قسم في الحياة، وقسم على هامشها.. . بدأ علاوة يفكر في هذا المنطلق، غير أنه شعر بأعصابه تسترخي، وبجفونه تذبل.. فلم يستطيع مواصلة التفكير . .. إنما تململ، ثم تململ، وتمطط ثم تمطط، وتثاءب، واستعد للنوم.. همد لحظات ثم ابتسم، كأنما شعر بيد ملاك يداعب وجهه ويقول له: كغ.. فقد بدت له خاطرة عجيبة، لم يكن يتصور، أن ذهنه يتوصل إليها، في يوم من الأيام.. . لأنها تشبه الألفاظ الجميلة التي يسمعها في الإذاعات. -الحياة سباق بين الناس.. السريع يصل الأول ويربح.. . تماما مثل السباق بين باعة التذاكر.. . وسأستمر.. . بل سأبدأ.. . سأخرج هذا المساء، وأشمر . .. لم يكن بعد قد انتبه إلى الخمر.. . ولم يكن هناك أحد ليبادره هازئا كما لو كان الشيطان: -نعم سباق.. لكنه غير عادل.. لأنه بدون حكم.. لأن الناس لم ينطلقوا من نقطة واحدة، ولا بوسائل متقاربة.. ولا ينوون ذلك في الوقت الحاضر.. قه قه هاها .. ويقين أنه سيقتنع بدون عناء، لأنه عاد في المساء كما خرج.. وبقلق أشد ,يستعين عليه عادة، البؤساء، والتعساء، والمحرومون، بكؤوس من الخمر الرديئة. تونس 1960 الطعنات بعد الجهد، بعد آلام السنين، وإثر إنمحاء شامل للضمائر، وفي ساحة كبرى، وقفنا استعدادا، وانتظرنا مليا، تحت الشمس المحرقة، حتى جاء حتى وصل، مصفر الوجه، ذابل العينين، خافت التنفسات، مغبر الشعر، صعد على كرسي حديدي، وانطلق باسمها، باسم الآلام، والجهد ,يتحدث، ويتحدث، قال الكثير، وقف في كل المنعرجات، وأشار بأصابعنا، لكل النقط والعلامات.. السوداء والبيضاء، وترنم بأناشيد لهثاتنا، وأرسل كل الزفرات، التي انطلقت من أفئدتنا، في ناي الآمال، نغمات عذبة حزينة طروبة، على إيقاعات: ) -أيها الجندي، أيها المسبل، يا أيها الفدائي، أيها الضابط وضابط صف، أنت إطار الأمس واليوم.. وأنت إطار اليوم والغد.. أنت الشرارة والشعاع، بل شمس اليوم، وشمس الأمس والغد.. بل الشمس السرمدية، أنت الحياة.. والدم الذي يجري في شرايين الحياة ..( إيه. ذلك قلب، ملأت به صدري، ذات زمن قضت عليه طعنة ورقة.. حين ضاق علي إطار الأمس.. وضقت على إطار اليوم.. . حين لم تعد الحياة في حاجة إلى الماء.. ولم تعد الشرايين في حاجة إلى الدم.. ولم يعد الناس في حاجة إلى الشمس .. أيها الجندي ,أيها المسبل، يا أيها الفدائي، أيها الضابط وضابط الصف، أنت مسرح من الخدمة . .. وها أنني قطعة حبل، تجرها المياه الراكدة الخرساء.. . ها أنني سلحفاة عمياء ..تتبعثر على حافة مستنقع نتن قذر.. بل ها إنني بصقة حقيرة، من فم سكير . .. قدمان، يدان صدر بلا قلب، رأس بلا عينين.. . كل ما أمثله أنا . .. رباه… وتهالك على أعشاب كانت فيما مضى، حشيشًا اخضر، وألقى بصره نحو مياه الوادي.. سوداء يلوثها الركود …وامتدت أصابعه إلى حصاة، قذف بها عودا يابسا.. ثم استلقى على ظهره، وخلا بنفسه: -تركته خلفي في سجن الفليق، ينتظر الذبح ..الحركي الخائن، حين أخرجناه من الدبابة، كالفأر الذي حطم السيل حجره، هممت أن اقضي عليه بزجاجة المولوطوف، لكن الأمر صدر حاسما : حتى يستنطق .. استنطق وأودع، سجن الفيلق، في إنتظار الإعدام. وحين أودعت فرقة الترويض.. لخطيئة وجب أن أعاقب عليها.. وصلت في الليل.. تدحرجت في عدة درجات ترابية، لأجد نفسي تحت الأرض بخمسة عشر مترا.. نظرت حولي، فلم أميز شيئًا.. الظلام الدامس يكفن ( الكازمة) وامتلأت أذناي بالأنات.. الجنود في الهواء المخنق يترنمون.. يئنون.. (بعد الحمام اللي ربيته)، حاولت أن أجلس، فلم أفلح، أقدام ورؤوس، جثث كتل من الجثث العارية المتصببة عرقًا، مرصوصة متشابكة، متكورة، متألمة، كأمواج البحر.. تفضل أحدهم فأشعل عود ثقاب.. لا مكان.. لا شبر فضاء.. ورغم الإرهاق بت واقفًا. وفي الصباح الباكر ..فتح الباب، وصدرت زمجرة غامضة: -خروج.خروج. لم أتعود بعد، على ترتيبات الفرقة.. فخرجت متثاقلا، كأنني كنت في حانة.. فتلقيتها على وجهي، لسعة حادة مؤلمة ,من سوط جاف .. -أخارج من عند أمك؟ جذبني الصوت، فالتفت لأجده .. -الحركي الخائن.. تركته خلفي في سجن الفليق ينتظر الذبح . طيلة شهر العذاب المرير، وأنا مقر العزم، على إعدامه، في اللحظة الأولى التي يفرج فيها عني. وأفرج عّني ,وأعيدت إلي بندقيتي (موزير) الرائعة، محشوة بخرطوش جميل.. . لكن سلبني، (حمار الليل ( إرادتي، فطأطأت رأسي.. واستسلمت لزوبعة الخيانة إعتدى على أمي وأختي. ربما قبل نصف شهر.. وعذبني كامل الشهر.. وهو الذي .. سلمني ، ورقة التسريح من الخدمة.. . يا للطعنة .. شعر بتقزز من ينهش جيفة، ففتح بصره : السماء تحزنها السحب. والتفت إلى الوادي : الماء يلوثه الركود.. وتناول حصاة، قذف بها عودا جافًا لم يصبه. وامللاه. ثم أخفى رأسه بين يديه، وضغط بركبتيه على الأعشاب، وشعر بأنفاسه ,تخنقها ذراعه اليمنى . .. -أختي المسكينة، سبع سنوات وهي تنتظره ,تنتظر البطل الظافر، حتى يعود، مشدود الحزام بالخرطوش والقنابل، على كتفه رشاشة سوداء، يتقدم الكتائب، حامى لواء النصر، يتجول في شوارع القرية، فمحفوفا بالزغاريد والهتافات، والزهور.. ثم يقتحم منزله فيحتضنها ويرفع الولدين على كتفيه. لم يستشهد وعاد، محلى الكتفين بنجمتين ذهبيتين.. احتضنها واحتضن الطفلين .. وبعد أسبوع طردها.. ليدخل ببنت غني القرية عروسًا، لائقة بالمقام.. فجاءت أختي المسكينة تطعنني: -لقد كنتما معا .. يا للجراح يلسعها الملح .. ثم تململ كالصريع. *** -و.. هي، قالت لي إنها اتفقت معي.. وقال عمي، خلال الأسبوع نزفها إليك.. وفي غمرة الحمى، لم أجدها . .. قيل لعمي، وابنته، إنني بدون) رتبة).. وقيل لابنة عمي وأبيها، أنني، طعنت بورقة .. أيها الجندي، أيها المسبل ,يا أيها الفدائي، أيها الضابط، وضابط الصف.. أنت مسرح من الخدمة . .. وغدا زفافها .. قلت ملأت به صدري، ذات زمن، قضت عليه طعنة رتبة . .. يا للشمس ,تدوسها القردة.. شد بكلتا يديه على الأعشاب فأوجعه وخز الشوك.. وعاد يتأمل .. السماء، تحزنها السحب.. ويلقى نظرات على الماء.. يلوثه الركود.. وفكر في النهوض .. لكن.. لم يحن الوقت بعد.. فالضوضاء ضاق بها صدرا وجعجعة الطاحونة أعيت أذنيه .. ليس أعذب من أن يرثي المرء نفسه.. فليفعل.. لينفخ في المزمار. -وبالأمس ,الزمن الأبيض، المحصور بين سواد الصباح، وسواد المساء، بالأمس، تجرأت، واقتحمت بابا .. كانت الجرذان تملأ العش.. يا للقططة، لم تعد تهابها الجرذان، بعد انطفاء الشمس. اقترح علي في هزء، أن أطلب خمارة.. ثم طردت. وها أنني بدون دخان ولا علبة وقيد.. وفي الليل، أعود إلى أمي، أصف لها الطعنة، فتسألني عن الورقة التي في جيبي .. ولن تفهم أنها طعنة .. أيها الجندي، أيها المسبل.. أيها أيها.. الجرذان، القططة... الرتب، التسريحات، المكاتب، الخمارات، الحياة بلا ماء ,الشرايين بلا دم، الرسوم بدون إطارات، الزمن بدون نهار. غدا زفاف ابنة عمي .. والتهبت النيران في أعصابه.. لكن حين فتح عينيه، كانت السماء يحزنها الليل والسحب.. وكانت قذارة المياه الراكدة تملأ خياشيمه. فحث نفسه على النهوض، وعاد ..قطعة حبل، تجرها المياه الراكدة الخرساء.. وسلحفاة عمياء، تتبعثر على حافة مستنقع نتن قذر.. وبصقة تافهة في فم سكير.. قدمين يدين، صدرا بلا قلب، رأسا بلا عينين، كل ما يمثل.. وبين شفتيه: -طعنات.. طعنات.. ليس من حق المأساة أن تتعدد طعنات ..الجيف لاتعنيها الطعنات . .. ولم يقل له أحد: -ليس غير الرجال يتحسسون الطعنات. الجزائر ١٩٦٣
| |
| | | karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: رد: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 17:45 | |
| من يوميات فدائي الساعة السابعة: حين تبلغ العواطف الأوج، تلد الرومانطيقية والرمزية. وتنكسب الدموع وتتراقص البسمات.. وتنتحر العذارى، ويفلح سحر العجائز. آه، إنني لا أستطيع أن أكتب يومياتي.. الثورة تحكم بالذبح على من يحاول تسجيل كتابات تتعلق بها في أوراق.. ولكنني تحديت، وكتبت طيلة أشهر.. ومقر العزم على المواصلة، غير أني اليوم لا أدري ما بي؟ الساعة السابعة والربع: . ..أيتها النخلة الهيفاء، أتذكرين كم يوما آويت اليك، وجلست الساعات الطوال، تحتك في صمت وسكون، وكأني راهب، ضمته جدران ديره.أتراك أيتها النخلة، تدرين ما الذي يدفعني إليك صباح كل يوم، أهو السأم والضجر من جو قريتي الحزينة، أم هو الوحي الذي أستلهمه منك، والشجاعة التي أستمدها، من الخلو إلى نفسي.. . أم هي الخشية من أن يطلع أحد على ما يجول في خواطري. وبالتالي انكشاف أمري. أم هي هذه الأشعة الدافئة، التي تتسلل بين سعوفك تلثم جسمي الذي لا يعرف الدفء في كوخي الحقير. أم انبعاث كل ذلك نغمات حيرى، في مزماري الحبيب؟ آه. أيتها النخلة، إنك مثلي لا تدرين. وأياما كان، فما أعذب الرطب الذي يتساقط علي، كلما عضني الطوى ,وهززت جذوعك. وما أعذب الأشعة الحمراء التي تلثمني في حنان وود.وما أجرأ الإبداعات التي أعمق ما استلهمها، من خلوتي هذه التي تكررت سنوات وما وما أععق تهبينه لمزماري الحبيب من ألحان.وما أجمل العالم، اللآازوردي الذي تحلق بي إليه، همسات سعوفك، كلما هب نسيم. أتشاهدين معي، أيتها الهيفاء الممتدة عروقها في الأعماق ’ هذا العالم .. آه ’ ما أجمله. لقد رحل العسكر من قريتي ’ و من كل بلادي’ وعاد رفاق صباي و دربي ’ في أزياء حمراء. يرفرف عليهم علم أجدادي المفدى .. و تنبعث من حناجرهم .التي طالما انبعثت منها الآهات و الأنات’ كلما تكاثف الضباب’ تنبعث من حناجرهم’ يا نخلتي العزيزة’ أنا شيد النصر و فرحة اللقاء ’ لتتلقفها الزغاريد فتعانقها ’ و قد بلغت العواطف الأوج ’ فولدت الرومنطيقية ’ و الرمزية. وها هو كوخي الحقير’ و كل أكواخ فقراء بلادي’ تغوص فتغوص خجلا حتى تختفي إلى أبد الآبدين. و ما أعذب بسمات السعادة التي تتراقص على شفاه البؤساء’ و هم يشاهدون السياط’ و الأنانية’ والجشع’ و العسف’ تذوب فتذوب و الغربان ترحل’ و الحمامات البيض ’ ترفرف.. . والسياخ تجود بالزهور القانية. إيه’ أيها العالم اللأزوردي الجميل’ يا عالم الحرية و السلم ’إنك تتراءى لي كل صباح’فهل أنت حقيقة آم سراب’ وهل يطول العمر حتى أعيشك’ و تراني. أنت حقيقة يا عالمي الجميل’ ينسجك خيطا فخيطا’ البؤساء و الكادحون ’ و لست لا بالسراب ولا بالوهم’ و كفى إنني أراك كل صباح’ واسهم في صنعك’ و إن ترني أنا بالذات’ فسترى’ كثيرا من رفاق الدرب. الساعة الثامنة : يا لهول ما خطر لي الدخول إلى المركز العسكري’ و التسلح منه اتبع بي الجرأة ’ هذا المبلغ؟ الثوري’ من يحافظ على حياته’ ليحفر الجبل بالإبرة’ ذلك مبدأ لكن التعليمات’ تقضي بإعدام الخائن اليوم با ذات. ما رأيك يا نخلتي الهيفاء إنك لا تجيبينني’ حسنا’ فليس من عادتك أن تجيبيني’ إلا برطبك الجني. فما العمل أي نعم ’ما العمل.الأمر يجب أن ينفذ’ أمر الثورة إرادات’ و الخائن ينبغي أن يموت’ و اليوم بالذات’ و القنابل اليدوية نفدت’ و مسدسي الرشاش الجميل’ إستشهد به رفيقي أول أمس. غادرني’ يافعا’ نشيطا’مفتول العضلات’ قصير القامة ’أسمر اللون ، حاد النظرات، مقفع الأنف، أسود العينين، مقرون الحاجبين في الثانية والعشرين من عمره ,لا يعرف له أبا، لكنه يحب كل الناس، على كتفيه، فقر وبؤس أمه العجوز، ليقذف ضابط الشؤون الأهلية، أثناء (المهرجان) الذي اجبر الأهالي على تنظيمه، بقنبلة، بآخر قنبلة. فلم تنفجر. آه، يا لذلك الاستشهاد، كم كان رائعا، كم كان بطوليا. ثلاثة ضباط، وثمانية عشر جنديا، مقابل رفيق، ولو لم تنفذ الرصاصات ,ويخرس مسدسي الجميل، لنجا. كانت معركة مهولة رائعة، تواصلت ربع ساعة، إلا أنها في ضخامة الدهر. قذف بها ملء قوته على المنصة، وانتظر أن تنفجر. لحيظات. وهو ينتظر، وكان عليه أن يختفي وسط الجموع، إلا انه، وكأنما لم يتعود الفرار، إلا حين يملأ أذنيه الإنفجار، لم يفر، لم يختف وسط الجموع. أخرج مسدسه، مسدسي الرشاش ,وصوبها نحو ضابط الشؤون الاهلية، قاضية، وتلقاها بدوره من لدن أحدهم، فانبطح وراء صخرة، ويده اليسرى، تتدلى. كان يطلق الرصاص، وكأنما يرسم بالمسدس، دائرة، رابط الجأش ثابت الصدر، واعيا لما يقوم به، حتى نفذت الرصاصات، آخر الرصاصات التي لدينا، فوثب يهتف: -عاش الفداء. والتهمته النيران، وبكيت وبكيت، وصليت في مزماري من أجله، وسجلت في دفتر يومياتي: حين تبلغ العواطف الأوج، يولد الفداء ,كالرومنطيقية، كالرمزية، كانتحار العذارى. الساعة الثامنة والربع: الدخول إلى المركز العسكري، والتسلح منه؟ ليس هناك أي حل غير هذا، أبدا ليس هناك حل آخر ,والأمر يجب أن ينفذ وليكن ما يكون. وداعا نخلتي العزيزة، إلى اللقاء، إياك أن تفشي أمري لأحد، وإن لم أعد، وانقطعت عنك ألحان مزماري الحبيب إلى الأبد. الساعة الثامنة والنصف: لقد عدت إليك، يا مخبئي الأمين، جئتك لا لأتخفى فيك كالعادة كلما قمت بعملية، ولا لأسألك سلاحا، ولا لأعملك مرة أخرى، أن أحد رفاقنا لن يعود إليك مرة أخرى، انك تعرف ذلك، كما تعرف أن القنابل، وكل الذخيرة التي كنت تحفظها نفذت. إنما جئت أسألك أمرا آخر، أين تلك الحقيبة الصغيرة التي طالما ,تناسيناها، وأهملناها ؟ إنني في حاجة إليها. هي ذي، لقد تراكم عليها غبار كثيف ,أترى، ما بداخلك، أيتها الحقيبة، بقي سالما كما تركناه؟ إنه كذلك، شئ حسن، في الواقع كنت أتوقع ذلك، ولو أنني خشيت أن تنفذ إليه الرطوبة. يا لها من بدلة جديدة، يبدو أنه لم يرتدها إلا يومها، وخرج يتيه بها عجبا في شوارع القرية، وبين الفينة والفينة، يرمق بكبرياء، النجمة الذهبية التي على كتفه، وكانت الشوارع مزدحمة بالمتسوقين، وعربات الخضر والدجاج تغدو وتروح، والأولاد يتصايحون: -ياعطشان ,ياعطشان، برد، برد. والدلال يردد بصوته الجهوري يا رحم الله من يدلنا على حمار أشهب( لم يكن الحمار غير الخائن، الذي جاءت الأوامر باغتياله، فلم يتسوق اللعين، ولم يكن المنادي غير أحد الفدائيين، المكلفين بالبحث عنه. تقدم الضابط من الدلال، يسوم الساعة الجميلة التي في يده، وكان يترنح سكرا. سأله، باللغة الفرنسية: -بكم هذه الساعة الجميلة. فتظاهر بأنه لا يفهم غير العربية، وانتدبني لأقوم بالترجمة، فأفهمت الطرفين ما يجب أن يفهماه، واندهش الضابط لانخفاض سعر الساعة، وتساءل، عما إذا كانت هناك ساعات أخرى، بمثل هذا السعر، ليشتريها لأصدقائه، كما قال، وليتاجر بها، كما فهمنا نقلت له اقتراح الدلال: -لم يبق لدي إلا أربع ساعات، وهي بهذا السعر وإن أردتها، فادخل معي الى مربض الخيول المقابل. -تبعنا الضابط منتشيا بهذا الظفر، ولم يكد يدخل المربض ,حتى هوت على رأسه، ضربة قاضية، هوى على إثرها، دون ضجة أو صراخ. جردناه من هذه البدلة، ووضعناه في كيس، حملته في عربة نقل خشبية، يجرها حمار أعرج، وصعدت به إلى فرن الحمام، حيث ألقيت به، وأضرم العامل النيران، بعد أن احكم إغلاق الفرن، ولم تمر ساعة حتى كانت القرية مطوقة، والتفتيش يجري على قدم وساق، ونحن نتسكع، متظاهرين بالبيع والشراء. -يارحم الله من يدلنا على حما أشهب. ردد الرفيق الدلال ,واقترب مني، يعرض علي الساعة، وسألني: -أتم كل شئ؟ -وماذا يطيل صلاة الفاهمين، والبدلة أين هي؟ -في المخبأ. ومرت اشهر، لم أتجرأ فيها على فتح الحقيبة، فقد خيل لي أن روحا سجينة بها، قتلت الكثيرين، بالقنابل وبالرصاص، واغتلت بالخنجر، ولا أشعر بأي ضيق، بل ومازلت أواصل الفداء، لكن، شبح هذا الضابط الشقي، ما يفتأ يتراءى لي، بين الحين والحين، لعل أحراقه هو الذي يستفز خواطري وضميري. لم أر في حياتي، إلا بشرين يحترقان، هذا الضابط الشقي ووالدي المسكين. كنت وقتها صغيرأ، لا أتجاوز الرابعة عشرة ألعب مع ابن عمي، نخوض غمار معركة عنيفة، كالتي تدور في ( قالمة) و(خراطة) و(سطيف). تارة هو العرب، حين يغلبني، وأنا الفرنسيون , وتارة، أنا العرب، حين اغلبه وهو الفرنسيون، وإذا بأزيز العربات، يكدر سكون باديتنا، وان هي إلا لحظات، حتى كان منزلنا محاصرا. اخرج العساكر والدي، أوثقوه بالحبال، ثم صبوا عليه البنزين، وأوقدوا النار. أغمي علي ولم استيقظ إلا وأنا في القرية، بجانب أمي في كوخ حقير، فقصت علي أن كل الرجال ماتوا، وكل المنازل أحرقت ,والحيوانات سيقت، وها نحن في هذا الكوخ ضيوفًا حتى نبني بجانبه كوخًا لنا. -هيه أيتها البدلة، كأنما خيطت من أجلي، حتى القبعة في حجم رأسي. لم يبق الآن، إلا تنفيذ قراري الخطير. الدخول إلى المركز، هكذا اعزل،والتسلح منه، ليس في ذلك اية غرابة. أي نعم، وسأكون هنالك بعد لحظات، وسينفذ الأمر اليوم. وداعا مخبئي الأمين، قد أعود وتضمني بين جوانبك، كما لو كنت أما حنونًا تضم وحيدها إلى صدرها ,وقد لا أعود، لكن المحقق أن هناك من سيخلفني، اليوم أو غدا. ظل أمينًا وفيا ,مخبيئ العزيز. آه، كم أود أن أرسل زفرات حرى، في مزماري، فإنني في الأوج. الساعة التاسعة: شوارعك، وديارك، وأكواخك، ونخيلك، يا قريتي الحبيبة، ستشهد اليوم، حادثا أخر، حادثا جديدا، لم تألفيه، وكذلك لم يألفه العدو. أنا الآن، أسير بخطوات ثابتة، مرتديا زي ضابط، إلى أين؟ إلى المركز العسكري؟ لماذا؟ لأدخله، لأمر أمام الحارس (فيطرطق) نعليه تحية لي، وأتقدم برباطه جأش، مرفوع الرأس إلى مخزن الذخيرة، وأطلب من حافظه أن يسلمني مسدسا، وحتى قنبلتين إن أمكن، بدعوى حراسة الطبيب الذي سأصطحبه في مهمة إستعجالية. قد يتفطن الحارس، فيقذفني برصاصة تخترق قلبي، وقد لا يتفطن هو، لكن غيره يرتاب في أمري، فتنطلق صفارة الإنذار، ويشار إلي بالإصبع: -هاهو، هاهو وتنطلق نحوي أقدام عسكرية خشنة، ويغمرني الوقع، لو كان مسدسي معي، لدافعت عن نفسي، وسجلت صفحة أخرى من البطولة والروعة.. . لكن، أين السلاح؟ إنني من أجله أقدمت على هذه المخاطرة. حينئذ فسيمسكونني حيا، تدوسني الأعقاب الحديدية، حتى تسأم، ثم يطوفون بي في شوارعك يا قريتي الحبيبة، لأكون عبرة لمن تخامره نفسه حين يبلغ الاوج فيقدم على مثل هذه المخاطرات، وقد يقولون أنني تأكدت من فشل الثورة، فسلمت نفسي، ويوزعون مناشير تحمل صورتي وتوقيعي. وقد يصدقهم كل الناس، حتى الرفاق. يا للمخاطرة، لكن لا مجال للندم، فكالبطاريات نحن ,نبلغ الأوج مرة، لننطلق في الرومنطيقية والرمزية. قد أنجو، ذلك لم يعد يهم. إنما إن نجوت، فسأنفذ العملية الرئيسية اليوم. هاه، لقد وصلت، أنا الآن أمام باب المركز، الحارس ينظر إلي أتراه ارتاب في أمري. كلا، إنه يرمقني في بلاهة، ويحييني بلا مبالاة، أي نجحت في المرحلة الأولى، المرحلة الشاقة، وهاهي دقات قلبي، التي كنت أخشى أن تسمع من شدة تتاليها وعنفها تخفت، لقد كانت هذه عادتي، في كل لحظة رهيبة، تلك اللحظة التي تسبق الخطوة الحاسمة في مهمتي، حتى إنني في بعض الأحيان، أضع يدي على قلبي، قبل أن أطلق النار، أو أفجر القنبلة، كأنما أخشى أن يطفر من بين ضلوعي. ان حالات الاوج العاطفي، يستحيل ان يعبر عنها سوى دقات القلوب، وانهيار الدموع، وتراقص البسمات، وزفرات في مزمار. نجحت في المرحلة الأولى، بكل تأكيد، وها أنا ذا في قلب المركز العسكري الحصين، بعض عربات شحن تستعد للانطلاق، على شمالي بعض جنود يحلقون ويغتسلون، على يميني يقع المبنى، المطبخ، ثم عدة مكاتب، فبناية مستقلة، مركز القيادة، يليها، آه، المخزن حسنًا لأتجهن نحوه، لأسرعن قليلاً، المرحلة الثانية لأجتزها، لأحاول على الأقل اجتيازها. طافت حول انفي نحلة وقحة، استفزت أعصابي، وبدت لي طائرة عمودية ضخمة، حاولت أن أنهرها، فلم أفلح في رفع يدي. الساعة العاشرة: إي مخبئي الأمين الوفي، ها أنني قد عدت إليك سالما ضمني ضمني إليك، فقد نجحت، أطبع على جبيني ألف قبلة، ودع الدموع تنسكب من عيني، إنني في الأوج. وقفت أمام حافظ المخزن، فمد لي يده، وصافحني بحرارة، كما لو كان يعرفني من آلاف السنين. انطلقت طلباتي جافة كطلقات رشاش ,فأسرع لتلبيتها، ثم رمقني في مكر وتساءل: -والقنابل اليدوية؟ ألا تحتاجها. -إي نعم، أشكرك، ناولني بعضها. -هي ذي خمسة، أتكفيك ؟ -وحين هممت بالعودة ,تمتم في هدوء وبرودة: -هكذا تنصرف بكل بساطة؟ أسرعت للمسدس، لكنه ابتسم وأمرني بمسك أعصابي: -منذ استشهد رفيقك الدلال، انقطع عني الخيط، ولم أدر كيف أربط الاتصال، هذه البدلة للضابط الذي أرسلته لكم، إنك جميل بها، إني فرنسي تقدمي ,سحبت من المعمل لأجند للتقتيل، هيا أوثقني بهذا الحبل، وكم فمي، غادر المركز بسرعة. اهتزت فرائصي، واضطربت أنفاسي، وشعرت بالحمى، وعانقته، وخيل لي، إنني أعانق كل الإنسانية، ما أروع ذلك. الساعة العاشرة والربع: قريتي مطوقة، إنهم يبحثون عني ولا ريب، حسنا لا يعيد المسدس إلى المخبأ، وأذهب لأتعرض للتفتيش. أما تنفيذ الأمر، فإلى حين، حتى تهدأ الزوبعة. الساعة الرابعة مساء: القرية مطوقة مرة أخرى، إنهم يبحثون عن الفدائي الذي اغتال اخطر خائن في قريتي، يبحثون عني. إي نخلتي الهيفاء، الممتدة جذورها في الأعماق، أرقبي معي الشفق، وأصغي إلى نغمات مزماري، فإنني ثمل، في لأوج. جانفي ١٩٦١
| |
| | | karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: رد: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 17:47 | |
| [center]اليتامى- ويدوي صوت اللعينة، زوج أبيها في الغابة، بعد أن فشلت كل مساعيها ومكائدها، لتحطيمها والإستئثار بقبله، يدوي طاغيا على صوت الفأس، وأنغام العصافير، وخشخشة الأوراق: -يا اللي تحطب في الغابة، وما تنتظر صابة. إذبح بقرة اليتامى تربح. -وسمع الصوت يا جدي ؟ إحك. إحك. لكنه ينساها .ويتجاهل إلحاحها الفضولي. ويستسلم إلى نفسه تبثه خواطرها.. (قالوا تخرجون.. تقرر أن تحرجوا.. ويجب أن تخرجوا.. إنتهى الأمر.. إنتهت القضية.المزرعة وجب أن تسلم. تحتم أن تتحول إلى تعاضدية.. تحتم أن لا تبقى مسيرة ذاتيا .. هذا كل ما في الأمر( ودون إضافة أي توضيح .انطلق المفوض العمالي للفلاحة مسرعا نحو سيارته . وارتمى فيها هاربا.. لم يلتفت حتى مجرد إلتفاتة. بالأمس.كان يتقد حماسة.واليوم يترنح فتورا .وكان يردد نحن .واليوم إستعمل أنتم .. وكما لم نصدقه بالأمس.ينبغي أن لا نصدقه اليوم .فملامح وجهه تعبر لا عن غضب أو حزن. إنما عن ذل وإنكسار. كان المفوض العمالي للفلاحة.يبدو كالطبل المثقوب.. إلا أنه لم يطل كلامه.. دفعته ولا شك حيرة عيوننا إلى الهروب.. لقد انفصل عن نحن .وصار هو .وصرنا أ،تم.. هذا كل ما حدث. وما أن اختفى.مخلفًا وراءه دخان عربته الأزرق.حتى أنبرى مدير الضيعة يحاول تهدئة غضبنا.. وإقناعنا. صعد على بقايا كرسي .مستندة إلى الجدار.وزمجر بصوت نسوي عبثًا حاول أن يجعله غليظًا: .. -وهذا ما حاولت إفهامه لكم منذ البداية.. الشامي شامي.والبغدادي بغدادي. وما تأكله العنزة الحواء في الغابة.تلقاه في حانوت الدباغة.. الدنيا ما تزال دنيا. لا تتجزأ. ولا يمكن أبدا أن تتجزأ .والقوانين لا تعيش أبدا مع الثورة تحت سقف واحد .. ويوم جئتكم مديرا كنت أعرف هذا .. لكنكم فضلتم أن لا تصغوا لنصائحي. وظللتم تطالبون بطردي من هنا .. كذب الخلاء يوصل الضيوف للدار. وها أنتم تلمسون النتيجة بأيديكم.. الأرض واسعة.طويلة عريضة ..والعمل هو هو . في كل مكان.وكل زمان.. والجزائر تحتاجكم هنا. أو في مكان أخر.. إننا بدونكم لا يمكن أن( .. -وسمع الصوت يا جدي؟ إحك إحك. -أه .نسيتك.أين وصلنا. -تنكرت يا جدي العزيز في برنس. وإقتفت أثار زوجها .ثم لما وصل إلى مكان عمله.أختفت بعيدا عنه . -إيه. إيه تذكرت ..وما أن شرع المسكين في العمل.يهوي بفأسه على الجذوع.والعرق يتصبب من كامل بدنه.حتى عوت كالذئب الجائع. -لقد قلت. كبومة الشؤم.ولم تقل كالذئب الجائع يا جدي. -لا علينا .كالبومة.أو كالذئب. فقد انطلق صوتها.يتردد صداه في الشعاب والوديان والكهوف: يا اللي تحطب في الغابة.وما تستنى صابة .إذبح بقرة اليتامى تربح .. -وإذا ما ذبحها ياجدي؟ غير أنه لم يجبها. فقد انطلق غائبا عنها.مغمضا عينيه. يلعق أحداث الصباح .. ..)لن تكون الجزائر .نعم إنه بدونكم .لا يمكن أ، تكون الجزائر.هذا أفهموه جيدا. -هذا يوم تصفية حسابنا مع الخبث. قال عبد الواحد. مسؤول الفرع النقابي.وأجال بصره فينا يستفسر. فرد عليه عضو لجنة التسيير.مسعود. -ستكبر. -ليكن .فلن تبلغ أكثر من هذا الكبر.أي شئ أسوأ من هذا؟ ثم هتف هادئا بعض الشيء: -أيها السيد المدير.أيها المدير. وكما لو لم يسمعه.واصل خطابه: .. -ومن جانبي أنا.فأنتم تعرفون.سأذهب حالا إلى المدينة أكلم المسؤولين هناك.. وإن إقتضى الأمر فالجزائر.. نعم إلى الجزائر لن أتخلى عنكم.لن أنساكم. -عندنا مفاهمه معك أيها السيد المدير. .. -غير أنني أرجو أن تنصرفوا الآن بكل هدوء.اتركواالقضية في يدي.ولن تخشوا أبدا من المستقبل.فلدي معارف كثيرة وأصدقاء في كل مكان كما تعلمون. خرج عبد الواحد.من بين الحشد.ووثب نحو المدير.أ/سكه من ذراعه بعنف وقاطعه: -نريد أن تسمعنا .قبل أن نفترق، أتفهم؟ نظر المدير إلى ساعته. ثم إلى الطريق . أفهمنا جميعا تطلعه أنه ينتظر وصول أحد.وخطر ببالي ، أنه ينتظر جماعة من النقابة . فإشتد تطلعي.ورغبت من أعماق قلبي أن يحضروا. فمنذ مدة طويلة لم نسمع أية خطبة نقابية. وعبد الواحد المسكين.ألفنا كلامه.رغم أننا في كل مرة نتيجة هو. كان الوقت الساعة الحادية عشر تقريبا.الدخان يتصاعد من أكواخنا. أكواخنا حتى اليوم على الأقل ومنذ عشرات السنين.رغم أنها تقع في تراب المعمر.لقد بناها - كالسجون - من أجلنا. بنيناها بسواعدنا. نساؤنا لم يبلغهن النبأ.يقينًا هن ينتظرن عودتنا.. اليوم الأحد. من العادة أن نتسوق في مثل هذا اليوم.إن لم يكن هناك عمل عاجل الإنجاز. السماء صاحية زرقاء.والعصافير تغرد نشيطة للربيع.والزهور في حديقة المدير.وشرفات قصره.تبتسم ثملة.وتتمطط في خجل العذارى. النحل يتراقص حول الأشجار المزهرة. مرددا أغاني الرحيق والأمل. آه. ما أروع أن يحضر النقابيون.ويدفئوا قلوبنا بخطب النضال والحماس .وينيروا لنا دروب العمل.( -وبعد يا جدي؟ إنك نائما. -لا. لم أكن نائما. أين وصلنا؟ -للغابة يا جدي. -وقلنا.إنها تنكرت في برنس.وإقتفت آثار زوجها. -وصلنا يا جدي. إلى. اذبح بقرة اليتامى تربح. ومرة أخرى نسيها.وتركها متشوقة لبقية الأسطورة. ..)كنت أعرف .كنا جميعا نعرف.ماذا يريد عبد الواحد أن يسمعه للمدير. سيقول له أولاً . أننا نحتاج إلى أجرة عملنا. التي لم نقبضها منذ ثلاثة أشهر. والتي بلغنا أنها جاءتنا . لكن المدير فضل أن يسدد بها الديون المترتبة على المزرعة. والتي لا علم لنا بها. وسيقول له ثانيا .أيها المدير هذه خمس سنوات. وأنت تشل عملنا بمنعنا من التجمع. وتكوين لجنتنا أو نقابتنا.والتصرف في شؤوننا أو شؤون مزرعتنا. وسيقول له ثالثًا: أيها المدير إنك سرقتنا.مع جهازك الحسابي. فعملنا هو هو .لكن مردوده يتضاءل في أوراقك .مهما بذلنا من جهد .ومهما تنازلنا عن الساعات الإضافية. وسيقول له رابعا: أيها المدير إنك تبيع محركات جرارتنا الجديدة وتستبدلها بقديمة.وإنك ترسلها للإصلاح دونما عطب أو خلل. وسيقول له خامسا :أيها المدير. إنك تملك في جهات أخرى. صيغة كبرى تفلحها بآلاتنا.وتبذرها على حساب ضيعتنا.ولقد بلغنا إنك من خونة الثورة. وسيقول له سادسا: أيها المدير.إنك وزوجتك وإبنتك وكلبك وسيارتك . تنفق أكثر من عمال المزرعة. وسيقول له أيضا: أيها المدير .إنك أنت سبب آلامنا وتعاستنا وشقاوتنا .وإنك ستعين مديرا في مكان آخر.لتواصل مهمتك .بينما نحن نتبعثر .نجرجر الخيبة والتعاسة. لذا من الأحسن .أن نصفي معك حساباتنا.قبل الإفتراق. لن نضربك .لن نقتلك .لن نهين زوجتك.أو إبنتك . أو كلبك. ولن نحطم سيارتك. لكننا فقط. لا نريد أ، نتركك تهرب. قبل تصفية الحساب. نريد جلب خبير من المدينة. ومحاسبتك. وسيقول عبد الواحد. ويقول. ورغم أننا نعرف النتيجة.لكننا نفضل أن يتحدى عبد الواحد المدير وأن يشركه في المصاب.بل وإنه يحمله إياه .ولو بمجرد المداعبة. نعرف أن الزمن طويل. وإن الدهر غلاب. وأن كل نطاح له يوم نطوح.. لكن النفس البشرية.في ساعات ضيقها.يخفف عنها أن ترى آلامنا تتوزع في جداول وقنوات متعددة. نظر المدير إلى ساعته .ثم رمق الطريق مرة أخرى .ثم إستدار لعبد الواحد.وأبدى محاولة لفك ذراعه من يده الخشنة وابتسمنا جميعا. ثم تألمنا. وجهه يصفر ويصفر. وقال بلهجة ذليل: -أيها الأصدقاء ..أيها العمال. -لا أصدقاء. ولا عمال. نريد أن تسمعنا قبل أن نفترق.أتفهم؟ أعاد النظر إلى الطريق . ثم زمجر مستأسدا: -أخبرني المفوض.أن رجال الدرك قادمون. وها هم لحسن الحظ قد جاءوا في الوقت المناسب. لقد إنتظمت بلادنا كأحسن ما ينبغي. إستدرنا جميعا نحو الطريق. كانوا هم بالفعل رجال الدرك. رمقنا بعضنا .وإتفقت عيوننا على أن المدير، هو الذي إستحضرهم سارع مسعود نحو عبد الواحد، خلص ذراع المدير من قبضته ، ثم دفعه جانبا ،بينما كان رجال الدرك، يحيطون بنا مشهرين أسلحتهم كما لو أنهم يحاصرون كتيبة عدو وقعت في الأسر. -وهذا ما حاولت إفهامه لكم منذ البداية. الشامي شامي ، والبغدادي بغدادي. قال المدير متحمسا، ثم واصل في تبجح: -هذه المزرعة لم تعد مسيرة ذاتيا، لم تبق لكم، كما كنتم تتوهمون لقد تحولت إلى أهلها، إلى الذين كانوا يكافحون من أجل تحريرها.. ما تأكله العنزة الحواء في الغابة، تلقاه في حانوت الدباغة، هي منذ اليوم لعشرة من قدماء المجاهدين الأبطال. -عشرة عوضنا ،مائة وخمسين ، عدا الإضافيين. هممنا ونحن ننصرف، مطأطيء الرؤس، الواحد تلو الآخر، بينما المدير يواصل: -الحالة هادئة حتى اللحظة.لكنكم حضرتم في الوقت المناسب. فهؤلاء الأوغاد، ملأ الأجانب رؤوسهم بالأفكار المخربة الهدامة ، سأمدكم بقائمة المشوشين. منذ زمن طويل، طويل جدا ، ونحن ننتظر رجال الدرك، والشرطة، وحتى الجيش لنصرتنا، لنصرة العدالة، لتثبيت القوانين الثورية لوضع حد لتخريبات المديرين لسرقاتهم، لاضطهادهم لنا. كانت لنا الثقة المطلقة، في أنهم سيحضرون، ذات يوم ،وكانت هذه الثقة تدفعنا إلى الحماس، والتفاني في العمل، وأكثر من ذلك ،إلى نسيان همومنا ومصائبنا.. وكنا نعمل على إستحضارهم ، فمن حين لآخر يجمعنا عبد الواحد ومسعود خفية في منزل أحدنا، وننكب ساعات وساعات، نحرر الرسائل والعرائض . كان كل واحد منا يملي بحماس ما يجيش في صدره ويتطوع لإرسالها(للفوقاني)الذي نعتقد مائة في المائة، في نزاهته وإخلاصه، وفي إنه ذات يوم، يصادف أن تنجو إحدى عرائضنا، وتبلغ يده، ويرسل الدرك والشرطة، وحتى الجيش لنصرتنا، لنصرة نفسه والجزائر والثورة، بإلقاء القبض على المدير. لكن هاهم قد حضروا، وها هم يحاصروننا. يقين أن رسائلنا وعرائضنا، ضاعت ، ضاعت في الطريق، في الطرقات، ولم تصله بالمرة. آه، هل نستطيع يوما تحريره، تحرير الطرقات المؤدية إليه والعدالة -وبعد يا جدي؟ -أه. لم تنامي بعد؟ -إنك لا تريد إتمام القصة، ماذا جرى لبقرة اليتامى يا جدي العزيز؟ -بقرة اليتامى، بقرة اليتامى ، أوه، كانت هي التي يعيشون منها، بعد أن حلت محل الأم ، كانت ترضعهم بحنان وود من ضرعها، حليبا نقيا عذبا. -عرفت ذلك يا جدي، لكن زوج أبيها ، بعد أن فشلت كل مساعيها ومكائدها لتحطيمها، والإستئثار بقلبه، تنكرت في برنس، واقتفت آثاره، ولما وصل مكان عمله، إختفت بعيدا عنه، ثم أطلقت صوتها كبومة الشؤم: يا اللي تحطب في الغابة، وما تنسى صابة، إذبح ، بقرة اليتامى، تربح. وبعد يا جدي؟ ..)تفرقنا وتشتت رجال الدرك لينتصبوا في النقط الإستراتيجية إستعدادا للمعركة الكبرى، وفي المنزل، وأنا أفكر، فيما ينبغي فعله لإنقاذ الموقف، إنفتح الباب دون أي طرق، وتدلفه مسعود وعبد الواحد والدراجي.. وكما لو أني أراهم للمرة الأولى ، وحتى أتأملهم بدقة. مسعود كهل يقطر حكمة رغم حيويته، قمحي اللون، عيناه تشبهان عيون الصينيين، أنفه مستطيلة دقيقة ، ذقنة مستديرة، شفتاه يغطيهما شاربان أسودان عريضان طويلان، ربع نحيف، على رأسه خرقة صفراء. عبد الواحد ،في مقتبل العمر، أسمر طويل، عيناه حادتان، فمه صغير جاف، وجنتاه ناتئتان، حاجباه عريضان، أنفه مقوسة ،يوحي بكل ملامحه ، أنه سجين أو رجل مباحث. الدراجي كهل أيضا ، قصير مستدير الوجه، أحمر اللون، بني العينين، مفرطح الأنف، ممتلئ الشفتين، أبيض الأسنان، كبير الأذنين يبدو للوهلة الأولى أن في منزله عذارى ، أو أن زوجته تقهره. -ما الذي أتى بكم؟ كنت أعرف ، أنهم أجروا الاتصال بكل العمال، وأنهم إتفقوا على إنتدابي لمهمة ما، ولم يكن سؤالي سوى لفتح باب الحديث، بعد أن طال وجومهم. -جئناك. -نعم ، أدري أنكم جئتموني ماذا تريدون؟ -العمال يكلفونك ،ينيبونك عنهم، نظرا . .. وقبل أن أنتظر كلامهم عن إبني الشهيدين، آثرت نزع صفة المأساة عن الموضوع، فبادرت بصوت جاف: -إنني مستعد .ماذا يريدون؟ -أن تقوم بدور المفاوض، مع قدماء المجاهدين، قبل الإقدام على أي عمل. -أي قدماء مجاهدين؟ أين هم؟ قال رجال الدرك ، أنهم على وشك الوصول ، أخرج إليهم. اللجنة والنقابة والعمال، لا يحددون لك موضوع الكلام، لكنهم فقط، يعلمونك بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي ، ويطلبون منك أن تدافع عن الحق. لقد إختاروك بسبب .. -أعرف ، أعرف السبب. ومن توي غادرت الكوخ، متكئًا على عصاي، قاصدا مدخل المزرعة ، وإن هي إلا لحظات قلائل، حتى كانوا قد وصلوا. حمدت الله على أن كانوا هم (لاندوشين(، الشنوة)، (البركة)، (بورب)، (كاسر وذنه.( فأجاهم على ما يبدو، إنتصابي في طريقهم، كغراب أجرب، غير أن "لاندوشين" إستطاع أن يتغلب على خوالج نفسه، فوثب نحوي هاتفًا: -الله يرحم الشهداء، ماذا هنا يا رأس المصائب؟ عانقني ، ثم التفت يخاطب مرافقيه: ) -السبع) و( شاهي الموت) رحمهما الله، تذكرونهما؟ هذا أبوهما ، ماذا تفعل هنا ؟ أهاج عواطفي ، وجدد فتح جراح القلب، فبدأ لي ولداي ، طفلين غريرين يمرحان حولي ، وأنا أنكب عن العمل، أقلب الأرض في وهج الشمس، والعرق يتصبب من بدني، أو أفتح مع الفجر السواقي، ليترقرق الماء، أو أجمم حصان المعمر، وهو يقف عند رأسي مهيبا كالقدر، أو أتمرغ في الأتربة والزيت تحت الجرارة، وفتيين يعرقان بجانبي ويتسوقان بدلا مني، وتطل عليهما عذارى الضيعة، ويتخفيان للتدخين. وفدائيين يروعان معمري المنطقة ، وتلهج الألسنة بالإشادة ببطولاتها. وجنديين أطلق عليهما رفاقهما إسمي (السبع (و(شاهي الموت) ، يواجهان العدو ويتحديان القضاء، وشهيدين مزق الرصاص جسديهما الحبيبين، عاد رفاقهما بعد وقف القتال، بعد النصر، وتأخرا إلى أبد الآبدين. إغرورقت عيناي، وخارت قواي، وكدت أقع على الأرض ولم أستفق إلا وأنا أكشف عن يدي للأندوشين، إجابة عن سؤاله ماذا تفعل هنا؟ -إنني عامل، وعضو في لجنة التسيير الذاتي. لم أتفوه بها، ولست أدري أيضا هل همست: -يرحم الشهداء. تأملت لوحة المزرعة التي نقش العمال عليها إسم إبني ، ثم التفت إلى لاندوشين. التفت عيوننا، وخيل لي أنه يهمس: -صحيح ، صحيح، لم نكن لنأتي إلا في مهام نبيلة، لم يكن لنا من شاغل إذ ذاك إلا التفكير في الكل، ولم نكن لنهتم بأنفسنا، إلا من حيث أننا مناضلو معركة طويلة شاقة، يجب أن توفر لها ضمانات النصر، لم تكن لحياتنا أية قيمة، أمام نجاح مهماتنا، كان الموت منتصبا في كل مكان، ونحن نظل نبحث عنه، لقد كنا نطارد الموت، نعم كنا نطارده، وغالبا ما صادفناه، لقد قهرناه، قهرناهما معا، الموت والحياة. إذ ذاك ، آنئذ، زمنها، لم نكن نرضع إلا من ثدي أمنا، كان صدرها عريضا قويا، وأحضانها دافئة، وأنفاسها حارة أحر من البركان. الثورة ترضعنا، والأرض ترضع دمنا، والتاريخ يرضع مجدنا. أما الآن ، آه. مرت لحظات قاسية من صمت ثقيل، إحترت كيف أقطعه، وبدأ لي أن" لاندوشين" وصحبه أيتم اليتامى. ودون أي تفكير مسبق، أنفلتت من شفتاي كلمات تشرح حركة يدي: -إنني واحد من مائة وخمسين عائلة في هذه الضيعة. أبتعد (الشنوة) جانبا، وتسرح بصره، يتأمل بنهم بنايات الضيعة، وأشجارها وكرومها وأزهارها. والتفت(بورب) إلى (كاسرونه (وتبادلا الدخان والوقيد، وأرسل (البركة) زفرة قلق وأما "لاندوشين" ، فقد أطرق برهة، ثم قال بصوت محتضر: -ونحن خمسة من عشرة، من آلاف قدماء مجاهدين لا مصير لهم( -يا جدي هل تظل في يا اللي تذبح بقرة اليتامى تربح؟ -آه، يا عزيزتي، ثلاثة أيام، واللعينة تعيد عمليتها ، حتى اقتنع زوجها بأن الصوت الذي يسمعه ، آت من أعماق السماء. -هكذا ، إقتنع. -نعم . وفي اليوم الرابع، لم يخرج للغابة، وإستبقى الطفل والبنت والبقرة، وعند الضحى أحضر الساطور والخنجر والحبل وأوثق البقرة وأذناه لا يفارقهما الصوت اللعين، يا اللي تحطب في الغابة، وما تستنى صابة ، إذبح بقرة اليتامى تربح. -ثم ماذا يا جدي؟ ..)قدمت سيارة المدير ، زوجته إلى جانبه، والبنت والكلب خلفهما وفوهة بندقية الصيد تطل من النافذة ، والزوجة تحاول سدها بمنديل وردي. حيانا المدير بابتسامة ، ومردون أن يخفف من سرعة السيارة وظل(كاسر وذنه) يتبعه بعينيه حتى اختفى ، وتبادر إلى ذهني، أن صورة إبنة المدير إرتسمت في ذهنه إلى الأبد ، وإنه قرر أن يتقدم لطلب يدها. وبحركة من يد( لا ندوشين) رحنا نتمشى بخطوات متثاقلة، وكأنما إستشعرت ببعض القوة إلى جانبهم، فقلت في حقد، وأنا أشير إلى رجال الدرك: -إستحضرهم ليحتمي بهم حتى يخرج. -من ؟ -المدير، وخرج إلى الصيد، وتركنا نحن وأنتم وهم.حتى تتم المفاهمة بيننا. -المفاهمة ؟ في أي شئ ؟ -إسمع يا "لاندوشين" يا ولدي في هذه الضيعة كما في غيرها، جنود ومسبلون ومناضلون، وأبناء شهداء وأرامل منذ البدئ، قامت هذه الضيعة على عاتقهم، ونحن لسنا يجبرها هنا، لا نتمتع بشيء، سوى الأمل والإعتزاز، إن هذه الضيعة لنا، وبصفة رسمية وثورية، ورغم أننا لا نجني منها، سوى الأتعاب ، فإننا نأمل أن تتحسن حالنا، ذات يوم.. وإنه ليصعب علينا، ويشق أن نرى أن كل ما قيل لنا، منذ اندلاع الثورة إلى اليوم وهم أو كذب أو سراب؟ نحن لا نفرط في الإشتراكية يا إبني . .. قاطعني "لا ندوشين" منفعلاً ، وبلهجة التهديد: -ونحن منذ سنوات ، نعاني الشقاوة، هذه المزرعة للدولة، والدولة تعرف ما تصنع بها.(( .. -وأثق البقرة يا جدي ، بعد أن أحضر الساطور، والخنجر.. وبعد ذلك؟ -أوه، ذبحها وسلخها وقطع لحمها .. -الله، مسكينة. -وبفرح أدخلتها اللعينة إلى الدار، وراحت تشوي اللحم لأبنائها. -واليتامى يا جدي؟ إنها بقرتهما؟ -أعطتهما الفرث، وقررت منعهما من دخول المنزل، ثلاثة أيام .. -الفرت؟ اللعينة، وتمنعهما من الباقي؟ -لكن يا عزيزتي ، لو تدرين ماذا سيخرج لهما من الفرث ؟ -ماذا يا جدي العزيز؟ ماذا؟ وعادت به الخواطر إلى أحداث الصباح. -)إسمع يا "لاندوشين" يا ولدي ، في المزرعة مائة وخمسون عاملا فقط، وهي تحتاج إلى مائة عامل آخرين، ونحن نرحب بكم أن تعملوا إلى جانبنا، واحد مكان المدير الخائن ،وآخر يراقب المنتوج الذي نرسله إلى السوق، والذي غالبا ما يضيع نصفه في الطريق، والباقون ننتخبهم للجنة التسيير، هذه إشتراكية ، ونحن إخوة.. وفي إمكاننا أن نقون بكل الأعمال عوضا عنكم. وفي إمكاننا أيضا ، أن نتنازل لكم عن بعض مدخولنا. بدأ الإشمئزاز على( لا ندوشين ) ، وقه قه (الشنوة)، وزفر(البركة ) من أعماقه. لم يوصني العمال بموقف معين، لقد فوضوا لي الأمر ، وأنابوني عنهم ، وعلي أن أتحمل المسؤولية( -جدي، إنك تنسى ا. -آه، قلنا . يا اللي تذبح بقرة اليتامى، تربح. -لا. لا، وصلنا للفرث، يا جدي العزيز. -نعم ، نعم، إبتعد به اليتيمان ، وفي إحدى شعاب الغابة وضعا وبينما هما في بكاء يمزق القلوب، ويذيب الصخور، ويزعزع الجبال، ويشق الأرض، إذا بالمعجزة تقع؟ -آه يا جدي العزيز، هل تحول الفرث إلى بقرة؟ هل حيت بقرة اليتامى؟ ..)إلتفت "لا ندوشين" نحو الطريق ، فإلتفت بدوري، وتأملت مدخل المزرعة واللوحة المنتصبة بجانبه، وراودني أمل ، وإن كان ضعيفًا في حضور ممثل النقابة ، ثم تذكرت مؤتمر عمال الأرض وكدت أستغرق في تفاصيله ، لو لم يبادرني لا ندوشين: -سنذهب الآن ، لنعود غدا إلى اللقاء. وانبعثت من البناية ضجة.. عبد الواحد، ومسعود، والدراجي، يلقي عليهم رجال الدرك القبض.. . ورغم ذلك همست: -تذكروا أن زيارتكم لنا في الماضي، كانت تبعث البهجة في نفوسنا.( -يا جدي، ما هي المعجزة ، هل حيت بقرة اليتامى؟ -لا يا عزيزتي ،إنما شئ آخر، نامي الآن ، وغدا أتم لك بقية القصة. ونفخ لتنطفئ الشمعة، واحتضن البنية، واجتذب الغطاء. ماي 1968 الرسالة يا أنت . .. وأعيدها: يا أنت. يا أنت ..وفي سمعي، عكس ما قد تظن أن أملا هذه الورقة كلها، بيا أنت.. وأعيدها في كل كلمة أو جملة.. لأنني أعرف- سلفًا- أنك لن تستغرب ذلك، ولن تستاء أيضا.. و إلا فكيف أخاطبك؟ أبثلك الكلمة يا (.. . )؟ كلا، كلا.. لن أتلفظ بها، لن تنبس بها شفتاي كلفني ذلك ما كلفني، وتسبب لي ولك، في أكثر مما تسبب لنا في الماضي. لا ، وأنت يا أنت.. تعرف معنى لا، التي أتلفظ بها، لا لن أقولها، لا، بكل تأكيد. بيد أنني ,أنوب عنك في طرح هذا السؤال: -لماذا، تكتبين إلي إذن؟ ما الذي تريدينه؟ لعلك، فكرت.. أن بداية هذه الرسالة ينبغي أن تكون من هنا .. إي نعم ,من هنا ينبغي أن تبدأ رسالتي هذه. أنا يا أنت، أكتب إليك، أملا في أن أضع حدا لكل شئ.. لكل ما بيني وبينك. طبعا- وبعبارة صريحة، أكتب إليك، محاولة مني لنزولنا من الأرجوحة المضحكة التي يتأرجح فيها كلانا . .. فلنبدأ الأمور من بدايتنا ,ولنتصارع أولا وقبل كل شئ.. قل لي أولا: -أنت تعلمين أنني أحبك: وثق في أنني سأجيبك: -أعرف ذلك، مثلما تعرف أنني .. لنقف عند هذا الحد من الصراحة ,ولنلتفت، إلى طريقتنا في فعل ما يسميه الناس بالحب .. حين قذفت بك الأقدار ورمت بفراشك في تلك البناية التي تبحلق نافذتها في نوافذ متزلنا طيلة الأربع والعشرين ساعة، وبين قوسين، لقد سكنت في النصف الأخير من الليل ورغم محاولتك لتجنب أحداث الضجيج، فقد كنت مستيقظة، وشاهدت منظر رحيلك، أو حلولك، أو سمه كما شئت . .. لا يهم. كان يركبك الغرور، وكنت في أقصى حدود العجرفة، وإلا ما معنى أن يكتشف مثلك ,إن النافذة المشرفة على نافذته ، بل، وعلى سريره تجري وراءها حركة غير طبيعية، وإن غادة جميلة، ياسمينة الساحرة الطيبة، ما تفتأ تتمطط في النافذة. وتتأمل مبتسمة مسكن جارها الجديد.. و.. تتصامم، تتعامى تحني رأسك، ثم تستدير في رشاقة وتختفي . .. أهو احترام الجيران؟ يا للسخرية؟ ..اهو النفاق والتظاهر؟ حتى لوصح هذا فإن النفاق والتظاهر نوعان من أنواع التحدي والغرور. آه، كم أود أن تعترف، وتصرح بالحقيقة، لأنني إلى حد اليوم، وإن كنت لا ابغض الغرور، وأومن بأنه يركبني هذا المارد، أقف منك موقف الدراسة المحللة، لا موقف المعجبة .. إي المعجبة، فأنت ,رغم السخط الذي تثيره في النفس، لا تخلو من ميزات، تغتصب الإعجاب بك اغتصابا ..حيويتك الفياضة، يقظتك الحادة، هدوؤك العميق، طريقة دخولك وخروجك، طريقة إصغائك للمذياع الذي تصر على أن لا يسمعه غيرك، ابتعادك عن لفت الأنظار، إلى درجة أتك تستنير بالشمعة دون الكهرباء، طريقة نومك وبالمناسبة، أسألك، لماذا لا تتبع طريقة كل الناس في النوم، فتستيقظ ليلة كاملة، وتنام يومأ كاملا، والعكس، بل، وقد تنام أياما وتستيقظ ليال .. ثم لماذا لا يحلو لك النوم، قبل أن تصفر بأعذب لحن سمعته في ليلتك، حتى أن سعاد أختي لقبتك ببلبل الحي المغرد؟ أهي عادة، أم هو تكلف ا أم تعبير عن شعورك بالوحدة؟ بالمناسبة، لماذا كل هذه الوحدة التي تجثم على حياتك، لا زوار ولا زيارات، لا أصدقاء ولا صديقات، ألا تشعر بالسأم والضجر؟ أم انك تضحي في سبيل احترام الجار أنا من جانبي، لا أصدق سوى أنك تخشى من أصدقائك على ابنة الجار ..علي أنا.. أليس كذلك؟ وطريقة لباسك أيضا تثير الإعجاب، فلماذا أنت فوضوي بهذا الشكل، تتأنق يوما، فتبدو وسيما جميلا رائعا، لا تنقصك سوى عروس عذبة، ثم لا تلبث أن تهمل نفسك، أياما وأياما، وكأنما أنت في زهد متواصل. أو إفلاس نهائي. وتلك اللحية الحمراء، التي تكبر أحيانًا، وتنقص أخرى، دون أن تختفي نهائيا، دعني أسألك , لماذا تحافظ عليها، وتنوعها؟ سعاد تقول انك تصبغ شعرك، وأنا لم أصدقها.. فهل تصبغ شعرك بالفعل؟ ولماذا؟ أوف.. لماذا كل هذا الإاسهاب في أشياء تافهة لا معنى لها ,اعذرني على كل حال، وأقول اعذرني، راجية أن تلاحظ ما يبدو في لهجتي من ليونة، كلما استمريت في الكتابة.. أفهمت.. إن الكتابة كالدموع، تخفف الآلام، وتحل العقد، وتبعث الصفاء في النفس هذه ملاحظة هامشية لا غير. لا علينا، ولنطو صفحة الأيام الأولى ,فقد إنتصرت عليك، وتعلقت بي. وهذا هو الجانب الثاني الذي يجب أن نمعن فيه النظر، وأسارع إلى القول(تناقضك، تناقضك، أجبرني على مجاراتك( لقد كنت لا تدري ما تفعل، كنت في صراع عنيف مع نفسك، وبعبارة صريحة مع غرورك، تبدي من الهيام بي، ما يجعلك لا تفارق النافذة ساعات وساعات، حتى أشعر بقلبي، يتضوع مكان قلبك، ثم لا تلبث، حالما ابتسم لك، وأحييك أن تتغيب، أو تختفي عدة أيام، وكأنما أنت تشعرني، بأنك تحررت من العبودية إلى الأبد (أعيد لفظة العبودية)، فانتظرك، وانتظرك، ودمي يلتهب، وأعصابي تثور وتهدأ، ألعنك وألعنك، ثم أبحث لك عن المبررات، وأتصورك زوجا قاسيا أنانيا ,إلى أن تعود، تفتح النافذة ثم تغلقها لتحدث ضجة فأسمعك، تقف، ثم تنظر إلى جانبي الطريق، وتمرر يدك على شعرك تحيي، وبكل وقاحة تسأل عما بي، ثم تطلب منى إن أصاحبك في نزهة. أسامحك في قلبي، بدون عذر، وأتمنى لواثب من النافذة فأعانقك وأضمك إلى صدري، ثم ابكي وابكي حتى أذوب، لكن لست أدري كيف يغلبني التحدي والعناد، فأغلق النافذة في وجهك بعنف، وأتركك تتبخر فتشوقًا، أياما وليالي. يا لك من مسكين، ويا لي من مسكينة أيضا. حتى أننا يوم قدر، والتقينا، وجنبا لجنب، قطعنا انهج المدينة الضيقة، وسط زحام الباعة والدلالين والسماسرة، وكنت استرق النظر إليك ,فأجدك أجمل مما كنت أتصورك من النافذة، ابيض، غليظ الحاجبين، أسود العينين كبيرهما، دقيق الذقن، ممتلئ الشفتين، متناسب الطول والقامة، لا تنقصك سوى بدلة أنيقة، وحذاء أسود لماع، أو بدلة عسكرية تزينها نجوم ونياشين، و مفاتيح عربة ضخمة، تقلنا، وننطلق و ننطلق. ويدك على كتفي، والريح تعبث بشعري الجميل، وصوت أم كلثوم يفعمنا: أنا واللي بحبه يا ليل، بينما كنت أنت تجيل عينيك في الوجوه وتحاول بين حين وآخر، أن تتحاشى النظرات في مزيج من الخجل واللامبالاة، وتسبقني إلى اختيار الأنهج الضيقة المظلمة، وتستفزني من حين لأخر، بالوقوف أمام واجهات المكتبات، والتدقيق في الطريق من خلفنا، كأنما أنت بطل من أبطال الأفلام الهاربين المتخفين. وخرجنا إلى شاطئ البحر، خلف المدينة العصرية، وتحت نخلة هرمة، جلسنا على الرمل، ينقر كلانا أطراف المواضيع، فيتدفق الحديث عذبا منعشًا كالموسيقى، لم تسألني بالمرة عن حياتي الخاصة، ولم أسألك أيضا، ولم تتغزل بي أو تتحدث عن جمالي، إنما تتأملني من قمة رأسي إلى قدمي، فأشعر بنشوة والتذاذ، رغم السحابة السوداء، التي تخيم على عينيك ,وتقطيبة جبينك المتواصلة، كما لو انك تحمل في ضميرك عبء إثم إله من الآلهة الإغريقيين. تأملت أعماقي، فوجدت أنني أحبك، أحبك إلى درجة العبادة، لكن رغم ذلك، لم أكن أشعر بأية سعادة، كنت أقاوم الانكسار والمذلة، والإهانة، وأنا اشعر بحزن وكآبة وشقاء.. وأجهدت نفسي لأخفي عنك، ما كان يعتورني لحظتها. آه، غرورك، اعتدادك بنفسك، لقد اعتبرت أنني صرت ملكًا شخصيا لك وانتهى الأمر، فرحت تتصرف ببساطة وانطلاق، كأنما مر على زواجنا عشر سنوات، فمللتني ومللتك، وبدا لي انك تحاول إيهامي بتحررك من جاذبيتي، تحررا مطلقًا. لقد أهنتني وجرحت كرامتي، لا شئ، سوى ببساطتك تلك المنبثقة من اعتدادك بنفسك، وثقتك المطلقة، في أنني لك، ولك وحدك،وانك الصقر الذي التفت مخالبه حول الفريسة وقررت أن انتقم لنفسي حالما نعود، وبالفعل نفذت قراري، فأغلقت النافذة، طيلة أسبوع كامل، رغم رغبتي الملحة في أن أراك. آه، يا أنت، أتراك المذنب، أم تراني المذنبة ؟ مهما كان الأمر، فلنتقدم في الصراحة، شوطًا آخر، فإن الأمر لم ينته عند هذا الحد. مرت اشهر ونحن في صراع، حتى كانت تلك الأمسية، يا لها، حين انتهينا من تلك القبلة المسعورة، تحت النخلة الهرمة، طرحت على نفسي هذا السؤال: -لماذا أحبه وأعبده؟ -لأنني معجبة به. أجبت نفسي ثم أضفت: -إذن فأنا أسيرة إعجابي به، يا للأسر، يا للسخرية. وهو يستغل ذلك. نسيت لحظتها أن أتساءل: وهل هو أيضا معجب بي، وبالتالي أسيري ولو تم ذلك، ما اتخذت وطبقت ذلك القرار الخطير، طردك من حظيرة حياتي إلى أبد الآبدين. -إلى هنا يجب أن تتوقف المسألة، لا تفكر في أبدا منذ اليوم. -أيتها المدللة الحمقاء ما بك؟ -كرهتك وهذا كل ما في الأمر، ابتعد عني حالا، و إلا استنجدت بالشرطة. -أيتها المجنونة، هناك أشياء كثيرة، أريد أن أحدثك عنها. -دعها لنفسك. وقصدت الشرطي، لكنك سرعان ما اختفيت، ويا له من ظفر، ويا لروعة الانتصار، اتخذت قرارا، ولم تستطع أن تمنعني عن تنفيذه، وهربت مختفيا وسط الحشود، في الأنهج الضيقة، تلوم نفسك ولا شك، عن عجزك على الاحتفاظ بهذه الدرة الفريدة. بين قوسين، لاحظت أنك ترهب الشرطة، وتتقي الالتقاء مع أفرادها ,لماذا؟ عرجت على الشارع الرئيسي، وسرت حرة مزهوة، تأملت واجهات المحال، ولفت انتباهي كثرة المحبين والعشاق، وتساءلت، لماذا لا تدخل أبدا الشوارع الكبيرة، وتسير كاللص في الأنهج المظلمة، أو خلف المدينة، وخطر لي أنك ربما شاعر من الشعراء الحالمين، الذين يسبحون في عوالم الأشباح والطهر، وسرني أن أكون قد أشعلت اللهب في أعصابك وقلبك، لتنبعث زفرات دافئة في مزمار الشعر، متغنية بي .. وقررت أن ابتسم لك، في سخرية كلما رأيتك. بيد أن بروزك منتصبا، تحت القوس، في النهج المؤدي لحينا،كالشيطان، وتلك الابتسامة التي غررتني، فأشعرتني بالندم، وفكرت في الاعتذار :لولا الصفعتين الحادتين اللتين جدت بهما على الخدين الورديين الجميلين. اللذين لثمتهما قبيل ذلك بنهم وشغف: -أيتها المدللة الحمقاء من علمك العبث؟ أتدرين من أكون ؟ كان درسا قاسيا لي، فاقتنعت بأن الدرب التي اقتيد كلانا للسير فيها ,ينبغي أن انطلق فيها كما يحلو لك، لا كما يحلو لي. وزاد ذلك في إعجابي بك، رغم موقفك من الدلال، لأن سعاد أختي، وكل صديقاتي، يقلن أن الرجال يحبون المرأة المدللة. كان ممكنا أن تسير الأمور، على أحسن ما يرام، في هدوء وسلام، على الأقل عدة أسابيع، لو لم تجر الرياح بما لا تشتهيه السفن. غرورك، واعتدادك بنفسك، وما يثيرانه في من تعنت وعناد رغم تنازلاتي المتواصلة. حين عادت أختي سعاد من عندك ,بعد أن أخبرتك بأن هناك من تقدم يطلب يدي، وأنني مستعدة للرفض، سألتها: -هاه ,هزه الخبر ولا شك، صفي كل حركة من حركاته. -كان في منتهى الحكمة، طرح الكتاب من يده، وتنهد بصوت مرتفع، وتضخمت تلك التقطيبة التي على جبينه، وأطرق يفكر مليا، ثم قال بصوت هادئ رصين : ما كان يجوز أن يحدث هذا. -ماذا ماذا؟ قاطعت سعاد ,فواصلت: -سألني : كم عمر يا سمينة؟ فأجبته مندهشة: -ألم تسألها عن عمرها حتى الآن، على كل حال ثمانية عشر سنة. -وأنا عمري ستة وعشرون سنة، أربع سنوات أخرى، شئ حسن، قولي ليا سمينة، أنني أريد أن أحدثها في هذا الموضوع وفي غيره سأنتظرها تحت النخلة الهرمة، بعد غد في الساعة السادسة والنصف، بعد خروجها من عملها. جن جنوني، ولم تستطع سعاد أن تهدئني، أو تقنعني، بأن موقفك إنما يدل على الرصانة والتعقل، وبكيت حتى تورمت عيناي، وقررت إعلان الحرب اللانهائية، وليكن ما يكون فالمآسي الكبيرة، إنما تحدث من المشاكل الصغيرة. لم افتح نافذتي، ولم آتك في الموعد، واخترت. اخترت أن أراك تتبخر وراء النافذة شوقًا وندما وحسرة، كإله إغريقي آثم. وافقت على الشاب الذي تقدم يطلب يدي، وأعلنت لنفسي، أن هذا هو النصر الكبير عنك، لكن ما راعني، بعد أسبوع، أي في اليوم الذي انبعثت فيه أول زغرودة من دارنا، تعلن الفرحة، ما راعني يا حبيبي إلا وأنت ترحل. آه، كم أنا حمقاء، كم أنت معتد بنفسك، وما أتعس حظنا. لم أراك إلا بعد سنة، ابتسمت كأن شيئا لم يكن، لم يتغير أي شئ فيك، سوى أن شعر رأسك ولحيتك، اسود بعد أن كان أحمر؟ وإن حركاتك ازدادت خفة وحيوية. لست ادري، كيف سلمت عنك في وجهك، وكأنك أخ عاد من سفر طويل،واستسلمت لقدمي تتبعان الطريق الذي تختار،في الأنهج المظلمة، ورنت في أذني، أول كلمة سمعتها منك في أول لقانا -يا يا يسمينة إنك الأنثى الأولى التي أثر ت في، وإني لجد سعيد حبيبي، وأعيدها معتزة: حبيبي، لأنك استطعت أن تفرض علي السير في دربك حتى النهاية. حبيبي، لماذا طرحت علي ذلك السؤال الجهنمي: -هل أنت سعيدة مع خطيبك؟ جرحت كرامتي، وأغريتني بتحدياتك: -سعيدة جدا، وأنا ذاهبة الآن إليه. وابتعدت عنك دون وداع، وأجهشت كالطفلة في الشارع. لقد كان علي أن افهم بأنك تريد أن تعلم ما إذا لم انسك، لتؤكد لي بدورك انك لم تنسني، وكان علي أن أسألك بعد ذلك هل زال الغضب عنك بعد فعلتي الشنعاء. لكن كان ذلك عسيرا علي ,وأنت تدري. أخيرا، لا علينا. فبالرغم من أنني لا أعرف أينا المذنب، فإنني أدعوك للتمعن في رسالتي هذه. وأشواقي، يا من لا يليق بي بعد الآن أن أخاطبه بيا أنت.. إنما يا حبيبي. المخلصة أبدا : ياسمينة ش اقلب الصفحة من فضلك. يقيني أنك ستقهقه من أعماق قلبك. لهذه الخواطر الصبيانية التافهة قائلا في سخرية لاذعة: -هؤلاء السطحيات البرجوازيات، لا يفسرن الحياة إلا كما يحلو لعواطفهن.. الإعجاب، الغرور، التمرد، الشوق، الذوبان، إنهن حالمات، خاملات، من بقايا هرون الرشيد وشهرزاد، وقرون الرومنطقية الطويلة. ثم تبصق على رسالتي ,وتدوسها بقدمك، وتقذف بها في وعاء القمامة وتهمس في ألم وأسى: -ما نزال غرباء ,إننا غرباء ما نزال. لكن، مهلا، حتى أسرد الحقيقة كما هي. أمسية رحيلك ,والحناء في يدي، وعيناي مغرورقتان، جلست قرب النافذة استمع للزغاريد، وأتأمل أثاثك المتواضع البالي، وكتبك الكثيرة، المختلفة الأحجام والألوان، وهي تلقي في عربة الحمال اليدوية، مع مذياعك العتيق الطراز، وقد كلفت أختي سعاد بتتبعك، لتحصل على عنوان مسكنك الجديد. إهتز قلبي واهتز، واشتدت بي الآلام، وأطبقت الدنيا في عيني وظللت لحظات أغمغم كالبلهاء: -طار بلبلنا الجميل، بعد دقائق ستبدو نافذته مكفهرة كمستقبل يتيم، سوداء كندم عذراء آثمة، وبعد ساعات أو أيام أو أشهر أو سنوات ,تتفتت الذكريات، كالصخور أمام الرياح والأمواج، وتتحول إلى رمال في صحراء قاحلة أو شاطئ مهجور. أدخل إلى بيت الزوجية عروسا، تبهرني دقات الطبول والزغاريد والهدايا، ويطربني الأثاث الأنيق، والجدران المطلية بالألوان الزاهية والأسترة الهفهافة، وقوارير العطر المرصوفة أمام المرايا اللامعة.. . وتسليني قبلات زوجي الظمأى، وقمصان نومي السابرية، و.. . ثم . .. وفجأة يفقد كل شئ طعمه. الماضي الحاضر والمستقبل. وتبدو لي غرفة نومي قبرا موحشًا، تضفى عليه في الليل، روائح الخمر، من فم زوجي الملل والغثيان. وأتذكر وأفكر : عبث صبيان، ما خطر لنا ذاك. وتراودني الخيانات ، وأتصور عشيقًا فتيا اسمر، إلا أنني سرعان ما اشعر بالغثيان، وأهب نفسي للاستلام الهادي بعد أن أرسل زفرة توجع. كدت أستغرق في هذه التصورات، لو لم تحدث حركة غير عادية تماما.. فقد انبعثت صفارات سيارات الشرطة، من طرفي النهج، وملأت الحي، قبل أن تتوقف أمام المنزل الذي كنت تقطنه. وثب رجال الشرطة من السيارات، وانتصبوا هنا وهناك شاهرين أسلحتهم، بينما تقدم ثلاثة، يرتدون الثياب المدنية نحو الباب، طرقوا لحظات، ثم دفعوا الباب بعنف، حطموه، وتدلفوا , ليعودوا مبهوتين : -المنزل غير مسكونا ؟ لحظتها، وقف خطيبي عند رأسي ,واضعا يديه على كتفي، وتمتم في تبجح -افتضح أمر صاحبك، إنه سياسي خطير، يعيش في الحياة السرية، اليوم نهايته. مادت بي الأرض، وتراقصت الجدران، تذكرت أشياء كانت تبدوا لي غامضة، وفهمت لماذا لا تلازم طريقة معينة في اللباس، وتدخل من باب وتخرج من آخر، ولا تسير أبدا في الشوارع الكبيرة، وترهب الشرطة. وكالمجنونة رحت أقهقه وأقهقه، وأتحسس موضع الصفعتين الحادتين أمسية هددتك بالشرطة. وتراقصت أمام عيني تلك السحابة السوداء التي تجثم على وجهك، وتلك التقطيبة المرتسمة باستمرار على جبينك. يا لي من حمقاء بلهاء، لم يغادر الحي انتقاما مني، أو من أجل الزغاريد ,آه، إنما هروبا من الشرطة. كنت ما أزال أقهقه وأهذي وأبكي، وأتقاذف هنا وهناك ,بينما خطيبي يتأملني مشدوها، في حين تنبعث الزغاريد، من الغرفة المجاورة، ولست أدري كيف استعدت وعيي، وتماسكت، وأسرعت إلى النافذة. فتحتها على مصراعيها ,ليتأمل خطيبي أيضا المشهد، وسألته: -من تعني؟ فأجاب مبهوتًا: -المنجي ,ساكن الدار، لقد رأيته بأم عيني، ورأيتك معه. ولأول مرة عرفت أن اسمك المنجي، لا المختار كما كنت تدعي. سأل الشرطة الأطفال عنك، فلم يجب أحد، بأنه سمع هذا الاسم في الحي أو رآك، ثم تصايحوا : -تحيا الحرية، تحيا الحرية. وخرجت جارتك العجوز الإسبانية، لتعلن أن الدار مهجورة منذ أمد طويل، وأنه فقط بين الحين والآخر ,وبدون انتظام، تنفتح نوافذها في آخر الليل، وتضاء شمعة، وأضافت وهي تعود أدراجها: -يقيني أن أحد البوهيميين هو الذي يلجأ إليها، لينهي فيها ليلته. زمجر خطيبي، بكلمات غامضة، وحاول أن يقول شيئًا للشرطة، إلا أنني أسرعت فصفقت النافذة، والتفت إليه أهدر: -هل أنت عميل للإدارة الفرنسية، هل أنت عميل للإدارة الفرنسية. طأطأ رأسه،وأداره يمينًا وشمالا: -لا لا، لكن جارك هذا كان يزاحمني فيك. شعرت بالحقارة، ووددت فعل شئ، وكان منظره يثير الشفقة، فزممت شفتي، وأغمضت عيني، وفتحت ذراعي، وتصورتك أمامي هوى علي، وكان نفسه نتنًا، ومع ذلك تحملت. كنت في شديد الحاجة إلى الانتحار. علت الزغاريد، وارتفعت دقات الطبول، ورنت الخلاخل الذهبية في أقدام الراقصات، ودخلت أمي غرفتي، تطلبني للتصدر، فاحمرت وجنتا خطيبي، وتسلل إلى الخارج. -أني قادمة. ثم فتحت النافذة، الشرطة اختفوا، الأطفال تفرقوا، نافذتك مغلقة، ليس سوى الكآبة والاكفهرار. ما أن خرجت أمي، وهي تستحثني، حتى دخلت سعاد تلهث، وتزمجر بالشتائم وهي تنزع اللحاف الذي تنكرت فيه لتتبعك: -هذا ساحر، جني.. . شيطان يا أختي، يخفي وراءه ألف سر وسر . .. -خفضي صوتك، حذار أن تسمعي، هل عرفت منزله الجديد؟ -أبدا يا أختي ,الشيطان نفسه يعجز عن اقتفاء آثار هذا المخلوق لقد نجاك الله منه. -كيف. -ما أن ابتعد من هنا، وخرج إلى الشارع الكبير، حتى وضع نظارات سوداء على عينيه، واستقل سيارة كانت في انتظاره، خلفه شخص آخر، لم أره بالمرة، وراء عربة الحمال، وقصد بها عربة نقل كبيرة، التفت أربعة غلاظ على الأثاث، فألقوا به وبالعربة التي تحمله في الشاحنة، وانطلقوا، وبينما أنا واقفة مشدوهة أحدث نفسي: -يا خسارتك يا يا سمينة أختي، خطف قلبك وراح. إذا بشاب، وسيم، عذب المحيا، يقف إلى جانبي ويهمس: -الأحسن أن تعودي إلى منزلك، أحذرك من التفوه، بكلمة عما رأيت، أخبري أختك أنه من صالحها، أن استنطقت، أن تنكر معرفة أي ساكن للمنزل المجاور لكم وان تشغل خطيبها أياما حتى ينسى المختار، هل فهمت . .. ثم أحنى رأسه على أذني، وهمس: -إنك حلوة مثيرة، صارخة الأنوثة. وضغطت سعاد، على الجملة الأخيرة، وأغمضت عينيها في نشوة والتذاذ. بين قوسين، هل تعلم إنها أرملة في الرابعة والثلاثين من عمرها، تعشق جارنا الإسباني، وتضاجعه ليلة في الأسبوع، وما تفتأ تعد له السحر ,ليسلم فتتزوجه. رحت استعرض، وأنا متصدرة، والحناء في يدي/، حوادث قصة (الأم (لغوركي التي أعرتها لي في أول لقائنا، وخيل لي إنك بطل تلك القصة، وتصورتك في اجتماعات سرية داخل الكهوف، كما استعدت منظر القطار، وهو يقل حبيبته البطلة بحقيبة المناشير، وخيل لي أن دقات الطبل، ورنات الخلاخل الذهبية، والزغاريد، كلها ضجيج عربات القطار الذي يقلني. وحين استفقت من غفوتي، نظرت حولي، واستشعرت التفاهة والحقارة، وعجبت كيف كنت تتحملني، مع أنك كنت تنعتني بالمدللة الحمقاء، وتراءى لي اليون الشاسع الذي يفصل بيننا، ثائر في الحياة السرية، لا يلج الشوارع الكبيرة المضاءة، تتحول المسؤوليات والأعباء المثقلة على كاهله، إلى سحابة سوداء، تجثم على عينه، وتقطيبة صارخة منقوشة على جبينه، و.. . وأنا، من السرير إلى الأكل، إلى العمل بالشركة، إلى الحناء في يدي والزغاريد ودار العريس. ومع ذلك أجبني، وصفعني ,واحترمني، ليتني ذهبت إلى الموعد وعرفت ما يريد أن يقوله لي، حقًا أنا مدللة حمقاء، ولمست خدي، وتناولت منديلا بصقت فيه، ومددت يدي لخطيبي يضع فيها الرباط المقدس ,واستسلمت للمصور، وهمست أختي سعاد. -إنك ملاك رائع الجمال، ستر الله عليك يا ياسمينة. وفي الليل، استولى علي الأرق، وبدأ لي أنني لأول مرة استيقظ بعد نوم عمري كله، وتقت للحركة، للمشي، للجري، للوثوب، لممارسة أي عمل من الأعمال، وكأنما أخشى أن تفوتني أية لحظة من اللحظات، بدأت أنظر حولي، واجد كل شئ جديد، حتى أمي، حتى سعاد، حتى نهجنا، حتى فراشي وقمصاني، وخطر لي أنني كنت طوال حياتي مخدرة، أبحلق في الأشياء والناس، دون أن اهتم بهم، سكنت في جوارنا قرابة العام وحدك منفردا تمام الانفراد. وأحببتك وخرجت معك، وقبلتني وصفعتني، ولم أسألك أبدأ، عما إذا كانت لك عائلة، أب، أم، أخت، إخوة هل تشبع، من يغسل لك ثيابك، هل لا تتوق إلى جو عائلي ,وإلى أكلات منزلية معينة، كنت أنانية عمياء، أنظر فلا أرى إلا نفسي ومصالحي، لم أسأل حتى عن عمرك، وطبعا أنت لم تسأل لأنك أولا تعرفنا عن كثب، رأيت أبي وأمي، وتلتقي بأختي، وتشم روائح مطبخنا، ولأنك ثانيا تنتظر أن أبادر أنا بالحديث عنك ,ولاشك وانك تألمت كثيرا من أنانيتي، ولعلك أشفقت علي، لقد حدثتني عن أشياء كثيرة، لا أذكر منها إلا ما يتعلق بي، بالفعل كنت مخدرة، ولقد استيقظت لكن متأخرة، بعد فوات الفوات، بعد أن ضيعتك، ربما إلى أبد الآبدين. آه، وطال سهادي وتململي ,وانتظرت بفارغ الصبر طلوع النهار، ولا أذكر كيف داهمني النوم بعد أن قررت أن أنفذ بكل دقة وحماس أوأمرك التي حملتها معها سعاد أختي. ومرت أيام ثقيلة جدا، حكمت فيها على نفسي بملازمة خطيبي، وبعناقه بمناسبة وبدونها، وكم آلمني أن أسير معه في الشوارع الأوروبية الواسعة العريضة المضاءة، الغاصة بالعشاق من اليهود والنصارى. كان يتأنق ويتعطر، ويرفع رأسه مصعرا فخورا مرائيا، لا يفتأ يتظاهر بأوراق النقود الثمينة، ويستدعيني إلى تناول شئ في هذه المقهى أو تلك، ولم يخل بي أبدا، تحت النخلة الهرمة، وفوق المقعد الصخري. دخلنا المراقص، ورقصنا، ورقصت بجنون مع غيره متحدية له ولنفسي، ولوجودي برمته. كنت مستيقظة، أتأمل كل شئ بكل جوارحي، وراعني وجود الاختلاف الكبير بين الناس، فقراء وأغنياء، أميون ومثقفون، عراة ومتأنقون، مرضى وأصحاء، عمال وأسياد، وأتذكرك، وأتذكر الشرطة، وأحاول إيهام نفسي، بأنك لم تكن إلا صوتا، أو شبحا أو نغمة من النغمات، أحدثت التأثير في نفسي ,ثم تلاشت، وانظر إليه وإلى بدلته وحذائه، والساعة الذهبية في يده، وجيبه المنتفخ ,وأشتم تقطيبة، وملامحه فلا اعثر على أية سحابة سوداء، وأتذكرك وأتذكرك. باح لي ذات يوم بأنه توهم وجودك بالقرب منا وتأكد من علاقتي بك، فدفعته الغيرة، إلى كتابة رسالة مجهولة للشرطة، يخبر فيها بموقعك، وحدثني عن هذا المنجي الذي يعيش في الحياة السرية، وعن أعماله التخريبية، ضد الفرنسيين، والأغنياء ورجال الدين، ومولانا الأمين باشا باي تونس، فأكدت له، أنني لو لم احبه، لما رضيت به خطيبا ثم شريك العمر.وانه بجماله وماله ومركز والده المفتي الحنفي فارس أحلام كل فتاة، وان من حظي أنا، ابنة صانع الطرابيش الفقير أن ارتبط معه، وأشعرته بأنني كدت احتقره، حين علمت بوشايته لولا حبي الجارف، فاعترف بخطأه، واعتذر وقبلني. لا شك أن الغيرة تشتد بك، وأنك تهم بإلقاء الرسالة! . تمهل، فهناك مفاجآت وتطورات، تثيرك ولا ريب. لقد ترددت على تلك الكتبية الواقعة في نهج روسيا، واقتنيت كتيبات عديدة ,فهمت بعضها، ولم أافهم البعض، كنت في واقع الأمر أبحث عنك خلال كل كلمة، وكل سطر، ولطالما وجدتك، ووجدت أفكارا، ما كنت إلا تلمح إليها مجرد التلميح، لكن تعيشها بكل كيانك، ولطالما وجدت نفسي، ووجدت خطيبي، لكن ليس معك بل في الشق المعادي لك، وكم آلمني ذلك. وهل تتصور أن خطيبي، حين اطلع على تلك الكتب، حدثني عن أتعابه مع عائلته ووسطه، بسبب تعفن عقلية والده، والمحيط الذي يضمه، إلى درجة أنهم وضعوا عليه حراسة مشددة، حتى لا يقرن الصلوات الخمس، وحتى لا يتصل با لأوساط المشبوهة. ثم اقترح علي أن نتصل بالمعادين للوضع، تصورا .. لم افهم دوافعه، ولو أنني أحسست بشعورين نحوه، الإشفاق عليه كضحية للتناقضات، والعداء، لأنه ربما بدون وعي منه، يحسدك في بطولتك. وأيا ما كان الأمر، فقد شرعنا في إجراء الاتصالات، لكن بدون مخطط او وعي سابق لما نريد. قصدنا نهج غرناطة، وصدمنا بالعفونة التي كانت هنالك ,عمامات ولحي وجبب ونياشين الفخر، والحديث عن الانقسامات، وعن الزعامة وعن الأسبقية في الدخول للحركة.. وعن الدعوات للسهر في القصر الملكي- فهمنا أن هذه بقايا من الوطنيين الذين إجتازتهم الأحداث.. ورحنا نبحث عن الشق الانفصالي، ورغم انه قيل لنا، أن جل عناصره في السجون أو المنفى، وان الشعب بعناصره الحية هو الذي يقود ويخوض غمار المعركة ضد الفرنسيين.. فإننا لم نياس من العثور على خيط من الخيوط ,يربطنا | |
| | | karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: رد: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 17:48 | |
| يوم مشيت في جنازتي ومشى الناس بقلم الطاهر وطار "إلى الدكتور جابر عصفور.. بدون أية خلفية" لست أدري كيف كان موتهم، وكيف سيكون موتكم أنتم، أما موتي أنا فقد كان أعجوبة الأعاجيب... فيلم خيالي من أفلام هيتشكوك، أو من أفلام العلم المستقبلي. كنا ثلاثة أطراف في العملية ,الموت، أنا، الناس. الموت، يجلس عند رأسي، حائرا فيما سيفعل، فقد نفذ أمرا ,اكتشف أنه، نفذه قبل أوانه. أنا ممدود في نعش أخضر أحضروه من المسجد، لم يجف الماء الذي غسلوني به، بعد... ذلك أنهم لم يكلفوا أنفسهم إحضار منشفة، من المناشف العديدة التي كانت في خزانة الحمام، بعضها أبيض، بعضها وردي، بعضها، أزرق باهت .نسيت أنني لست في بيتي.. المعذرة. الناس ______________يروحون ويجيئون قلقين، كما يدل استطلاعهم للساعة بين لحظة وأختها، يتوافدون الواحد تلو الآخر، بادين في الأول بعض الحزن، ثم سرعان ما ينسون المناسبة والمقام، فينخرطون في حديث تافه، أغلبه يتعلق بمن حضر من الرسميين ومن لم يحضر، ومن يمكن أن يحضر، فالمناسبة هامة، وليس أدل على ذلك من حضور طقم التلفزة، وكثير من ناس الصحافة والإعلام المختلف، وكل الزملاء الكتاب، حتى أولئك الذين لم نتبادل كلمة واحدة، منذ ما يزيد عن عشرين سنة، حتى أولئك الذين كتبوا في تقارير سرية، ومقالات علنية يطالبون بنفيي، أحيانا، وبإعدامي أحيانا، وباعتباري منحرفا اجتماعيا، فمكاني الوحيد هو الصحارى والسهوب للعمل مع مجرمي الحق العام في اقتلاع الحلفاء، حتى هم حضروا ويبدو عليهم الحماس للتقرب من المتقربين من جثماني أكثر من غيرهم. الدكاترة، أساتذة الجامعة الموقرة، كان حضورهم بينا لا يمكن إطلاقا عدم الانتباه إليه، فهم عادة لا يظهرون إلا بمحافظهم المنتفخة ,واليوم بالذات، تجلت المحافظ بشكل غير عاد. كان الجميع يتوجهون بالعزاء للسيد الوزير والسيد الكاتب العام للوزارة، والسيدة مديرة الديوان، دون السؤال عما إذا كان هناك أحد من أهل المرحوم الذين يتقبلون العزاء.. الحق يقال، كان الوزير ومن معه من وزارته ومن زملائه الذين سبقوه في هذه الوزارة، وقد استنفروا جميعهم، أحسن من يقدم له العزاء، فقد كان الحزن يطفح من النظارات السوداء التي تغطي أعينهم، أما أهلي فقد كانوا على قسمين، قسم النساء، بقي في المنزل يهتم بالمعزيات من أهل الحي ,وبما سيفعل مع الدائنين وبالصحف القديمة والكتب والمجلات المتناثرة في كل ركن من أركان البيت، والتي كثيرا ما كانت مصدر خلاف عائلي حاد. وقسم الرجال الذين حضروا مباشرة من المطارات، إلى المستشفى أولا ثم إلى قصر التكريم، حيث أتمدد على ظهري في النعش الأخضر، وسط القاعة الكبرى للقصر، وحيث يطغى صوت المقرئ، على أصوات السادة والسيدات، المودعين والمستقبلين . أهلي الذين كانوا هنا، غلبهم الانبهار بما يجري، فاعتراهم الشعور، بأنهم في عرس وليسوا في مأتم، وقد سرهم ذلك أيما سرور، ما جعلهم يذوبون، ويزدادون إحساسا، بأن كل هذه المكانة التي ما كانوا إطلاقا يتصورون أنني أحتلها، لا شك أنها دليل على ثروة كبيرة تركتها، وسينالون من التركة، ما يزيد في محبتهم لي، حيا وميتا، سيستفيدون، لأشهر عديدة، إذا ما قصدوا إدارة، لغرض ما، أو إذا ما ارتكبوا مخالفة فأوقفهم الشرطي أو الدركي بالتأكيد. كيف مات؟ كان هذا السؤال، أكثر ورودا وترددا على الألسنة، بعضهم يطرحه استغرابا، وبعضهم يطره حسدا وغيرة، وبعضهم يطرحه وشاية، وقليل من يطرحه فضولا، ومع أنهم مجمعون في قلوبهم، على أن هذا البهرج الذي يرافق جنازتي، في فائدتهم أكثر مما هو في فائدتي، فإنهم مع ذلك يرون، أنه لولا السياسة، ولولا الظروف العامة، المحيطة بالنظام، وبالصحافيين والمثقفين عامة، لما كان أحد يعيرني العشر من هذا الاهتمام . مع ذلك كان الثناء على النظام وعلى السيد الوزير وعلى كاتبه العام والسيدة النشيطة مديرة ديوانه ,كبيرا، لدي جميع الحاضرين، فمثل هذه الفرص التي يخرج فيها المثقفون من جحورهم نادرة، إذ أن عمر الشاقي باقي، وعمر ال************ طويل كما يقول المثل، والأدباء والكتاب والمبدعون عموما، مع قلتهم، فإنهم مصممون على أن لا يموتوا إلا في أرذل العمر، حتى ينساهم الناس، ويفقد وجودهم لمعانه. يقال إنه مات مقتولا على يد إرهابي. غير الموضوع، رجاء، فالأيادي عديدة والموت واحد.. غير الموضوع، فالين اليباني في أوج ارتفاعه. والمسجلات شغالة. قال آخر لمن يقف معه: أمات بالرصاص أم ذبحا؟ يقال إنه اختنق بالغاز. لم يكن أحد في المنزل ساعة موته. المعلومات التي عندي تقول إنه مات خارج منزله. المهم أنه مات والسلام، والأعمار بيد الله. بينما كان اثنان ينسحبان خارج القاعة، ويتهامسان ... تقول ممرضة، صديقة لنا، إن الرصاصة سكنت رأسه، وإن الطبيب الذي عاينه، رغم أنه أجبر على إعلان الوفاة ,إلا أنه ظل يردد أن الموت الإكلينيكي لم يتحقق بعد . هددوه، إلى أن وقع على وثيقة الوفاة، إلا أنه ما أن انصرفوا حتى اقتحم القاعة التي ينطرح فيها الفقيد ,فأخرج الرصاصة، خبأها في جيبه، ثم قدم بعض الأدوية له. تقول، ظل الطبيب، مقتنعا بأن المرحوم حي وأنه لربما يسمع ما يقال حوله، ويدرك وضعيته، ولربما يفكر. فعندما يتوقف كامل الجسم، تعود إلى المخ طاقات لا حدود لها. لقد ظل الطبيب، يتردد على القاعة وفي كل مرة، يراجع النبض، ويطيل في ذلك، وعندما اقتحمت الشرطة، غرفة الإنعاش، واستولت على الجثة، سمع عن الطبيب، أنه قال، ستدفنونه حيا، فاصطحبوه معهم عنوة، ولم يظهر بعد. "إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" أبرز المقرئ الآية، بل إنه كررها ثلاث مرات، في نبرة تهديد ووعيد، أكثر منها نبرة تلاوة على قراءة ورش ونافع. متى قتل؟ الظاهر أنه ضرب اليوم مع الفجر. بعد أن اختفى منذ يومين، وقد أخبر أهله بموته أمس وطلب منهم الحضور للجنازة التي تتولى الدولة إقامتها، وعندما طلب أن يدفن في قريته، ردوا عليهم بعنف، بأنه سيدفن مع المكرمين ,في مقبرة المكرمين، فالبلد ليس فيه الكثير من أمثال هذه العبقريات . ضرب تقول؟ المسألة رصاص إذن؟ "يجعل قال على من قال " هناك قول آخر، يزعم أنه شك بمادة مجهولة، وأن الطبيب اهتدى إلى معرفتها، وأنه عالجه بمضاد يأمل أنه سينقذه. ما تؤكده الممرضة أنها سمعت الطبيب يقول بعظمة لسانه " ستدفنونه حيا " وانه، الطبيب، ما يزال في قبضتهم. كنت أشعر بوجوده عند رأسي، الموت، بل إنني كنت أراه في شكل شخص يرتدي لباسا عسكريا، ويحتزم بعدة مسدسات وكلاشات، وأربجيات، وخناجر وسيوف، وقنابل على مختلف الأحجام والأشكال وطائرات كذلك. تمنيت أن أسأله، عما إذا كانت ساعتي قد حضرت فعلا، وأن المغادرة قد حانت ولا رجعة في ذلك، أم أنها لم تحن، وأن المسألة بين البينين، وأنه سيظل هكذا عند رأسي مدججا، لربما ساعات، ولربما أياما، ولربما شهورا. فهمت في بداية الأمر، أنه قال، إن هناك خطأ ما وأنه قام بمهمة لم يكلف بها. أتمنى أن تحل الإشكالية على خير، قلت في رأسي، وقد بدأت أحس ببعض الدفء يراود جسدي. مهما كان الأمر، فالموت لا يعني شيئا للكائن، ولولا الوجع الذي، يحصل بسببه، لما فرقنا أبدا بين أن نكون هنا أو لا نكون. وإذا حدث وحصل الوجع، فالأحسن أن يموت المرء بأسرع ما يمكن. الوجع هو ما نخشاه من الموت. وما يحدث لي هو أشق أنواع الموت... ذلك أنني هنا ولست هنا. هنا أسمع كل ما يقال حولي على بعد مئات الأمتار، بل إنني بمساعدة روحي التي تطوف بالمنطقة كلها، وتتأمل وجوه الحاضرين والحاضرات، أستطيع حتى قراءة ما في رؤوسهم. توقف المقرئ عن التلاوة. أمر بذلك .طوى المصحف ووضعه في محفظة كانت معه، تحت الكلاشينكوف. حاول أن يخفي الكلاش قدر الإمكان، لكنني رأيتها، وأستطيع حتى أن أعدد أرقامها. اكتمل الجمع. حضر كل من أعلم بذلك من أهل الفكر والفن والثقافة، ومن الوزراء والوزيرات السابقين والسابقات ,أكثر من ذلك، فإن رئيس حكومة سابقا، ما أن سمع الخبر في الإذاعة، حتى تلفن يستعلم عن مكان انطلاق الموكب، وموعده، ومقبرة الدفن، ثم انطلق. ظل يردد، كنت أتوقع ذلك، وأذكر أنني حذرته مرة منهم. ربما لا يحب، لكنه يستحق الاحترام. خصم عنود وشريف. انطلقت الطويوطا الخضراء، يحيط بي بعض الأقارب، ومعهم كاتب وأستاذ جامعي ,وصحفي كان يحبني، وكان الوحيد الذي ذرف دموعا علي. تلي الطويوطا سيارة التلفزة ,بكاميرتها الشغالة والمركزة على معاليه، ثم سيارة معاليه، والموكب الوزاري باختصار ,وكان المقصد مقبرة المكرمين، أولئك الذين يشرفون الوطن الحبيب بشكل أو بآخر . شيوعي كلب، لولا الظروف، لما مشى في جنازته، حتى أقرب الناس إليه. كتاباته تافهة ومعظمها سرقه من الكتاب الروس والبلغار والغربيين بصفة عامة. أنا واثق من أن أمثال هؤلاء يكتب لهم أسيادهم، وهم لا يفعلون سوى وضع أسمائهم. أما الترجمة فحدث ولا حرج. لا تستطيع أن تكون كاتبا مقروءا في لغة أخرى، حتى وإن كانت لغة قبيلة بالوبا إلا إذا كنت حمارا أحمر. معك حق. إسلاموي كلب. لقد كتب يدافع عنهم ,ويدعو إلى غض الطرف عنهم والسماح لهم بالوصول إلى السلطة. هكذا إذن. وأكثر ,الوحيد الذي فلت من الموت على أيديهم، لو لم يكن من قادتهم، وهو الذي يأمر وينهي , يأمر بقتل ذا وتجاوز ذاك... راسبوتين خبيث، ما عرفت البلاد مثله. لكن ها هم قد قتلوه أخيرا. من يدري؟ فال************ شعوبا وقبائل، تيارات، وعصابات، وأرهاط، ومن يدري فقد يكون على علاقة بمافيا ما ومات على يدها، لربما، ولربما.. أمثال هذا الرهط ,تجوز فيهم ، ربما، بكثرة. لربما. هل قرأ ت له شيئا؟ أعوذ بالله. أقرأ لهذا الملحد الداعر. أقسمت أن لا يدخل كتاب له بيتي. لن ألوث مكتبتي، بأفكار هذا الرجل .لن أجعل أولادي وبناتي عرضة لأفكاره السامة. لكن كيف تحكم عليه؟ سيماهم في وجوههم يا رجل. تكفي عناوينه، لوضعه في الخانة التي يستحقها. الم******لة. لكن الناس يحبونه. الرعاع يحبون حتى الرهج. خالف تعرف. والله. ثم والله العلي العظيم ,لولا أن الوزير شخصيا، ترجاني أمس أن أتولى تأبين الرجل لما جئت ولما حضرت، ولما مشيت في جنازة هذا الكلب. تؤبنه. نعم وللضرورة أحكام. يا أخي كما قلت لك ,في القصر، الخيط الوحيد الموصل لموت الرجل، بعد الطبيب المختطف، الممرضة، وإنني لأخشى، أن تختطف بدورها إذا ما استمر لسانها في اللوك. الموت في هذا الزمان لا يعني سوى الغياب، ثم النسيان. كم يغيب الناس، وكم ننسى بسرعة. هل أعددت التصريح الذي ينتظره الصحافيون. سأل معالي الوزير الأمين العام، فبادرت مديرة الديوان: التصريح عندي، إنما أردت أن اسأل معاليكم، هل نوزعه مكتوبا، أم تقرؤه ,أم تقول فحواه لا غير. أرى يا معاليكم، كما يرى السيد الأمين العام، أن تقول كلمات أمام الكاميرا وينتهي الأمر. طبعا بعد الصلاة والتأبين والدفن. أضاف الكاتب العام. ساد الصمت قليلا، ثم بادر معاليه: لربما يحضر الكبير. لربما يحضر الأكبر منه، فالمناسبة، كما نرى مهمة، وقد عكر الأمر، حضور رئيس الحكومة الأسبق البغل هذا. هذا الرجل لا نفهمه. لا ندري مع من هو. ليس بطيخا، وليس خيارا ولا فقوسا. ليس شيوعيا، ولكن يردد نظرياتهم في التطبيقات الاقتصادية، كاد يخرب البلد ,لو لم يطرد شر طردة. لم ينضم للجنة إنقاذ الجمهورية، ومع ذلك لم يعلن تأييده لل************. لا هو طين ولا هو فخار... ما الذي أحضره، لو لم يكن ذلك تشويشا على الحكومة، وإيحاءا للناس، بأن جزءا مهما من هذا الكاتب الحقير لا يعني الحكومة ,ولربما يريد بهذا الحضور المتطفل أن يقول للناس كلاما آخر. أعتقد أن هذا هو الهدف الحقيقي، فهؤلاء الناس، لا يتحركون فرادى، ولا بشكل غير منظم. كيف استطاع هذا المعتوه أن يكون رئيس حكومة. إنه زمن الرداءة فعلا. أضاف معاليه، وكان قد نسي تمام النسيان أن من عينه وزيرا، هو هذا الذي يتحدث عنه بهذه الصفة، وبالتأكيد لو ذكره أحدهم بهذه الحقيقة، لقال بأنه استنجد به، ولولا استحقاقه وأهميته، لما بقي بعد ذهابه هو. ثم إن الفارس من ركب اليوم، كما تقول العرب. كنت أحس بالدفء يعتري جسدي، كلما اقتربنا من مقبرة المكرمين، رغم الطقس البارد الذي كان سائدا، حتى أن أحدهم علق قائلا، نهار مثل اليوم، لا يموت فيه إلا اليهودي. سنبتل في المقبرة ,بل إن فرصة التسليم والتقديم والتعرف، تكون محدودة جدا جدا. مزعج حيا وميتا. غير أنه ما بلغنا المقبرة، حتى بزغت الشمس، فتنفس الجميع الصعداء وانهالوا على بعضهم يسلمون بحرارة، ويضربون أكتاف وظهور بعضهم ضربات خفيفة لطيفة ,حتى أولئك الذين كانوا بالأمس مع بعضهم، كأنما اليوم يوم عيد. حضر أقوام آخرون لا أعرفهم، وقفوا جانبا، مبتعدين عن المحفل الرسمي، بعضهم بلحى، سنية وبعضهم الآخر بلحى غيفارية، بعضهم يتجلبب، بقمصان طويلة مختلفة الألوان، وبعضهم يرتدي سراويل جين وقمصانا زرقاء، بل إن بعضهم تجرأ ووضع رباطة عنق حمراء في عنقه، في حين وضع بعضهم قبعات حمراء على رؤوسهم. كان تحديا صارخا، من هؤلاء وهؤلاء . اقتربت منهم. كانوا يترحمون علي، وكانوا كلهم مجمعين في سرهم وعلانيتهم، على أن قتلتي هم هؤلاء الذين جاءوا يشيعون جثماني، ويدفنون معي كل تحد، وكل إصداح بالحقائق ولو أن الدنيا دنيا ,لألقي القبض على جميعهم، بما في ذلك هؤلاء السدنة البارعين في تقبيل خدود أسيادهم ,والله، لو استيقظ المسكين لأشار بإصبعه إليهم هاتفا: أيها القتلة، إليكم عني. الكبير لا يأتي، ولا الأكبر، لقد تسربت معلومات، تفيد بأن مجموعة من الرعاع المشوشين، استبقوا إلى المقبرة، لتدبير مظاهرة. ها هي طلائعهم. جاءت البرقية الشفوية لمصالح الأمن، فتنفس معاليه الصعداء، والتفت إلى مديرة الديوان يسأل عن طقم التلفزة، وهل أنهى مهمته في التقاط الاستجوابات والشهادات حول المرحوم، فطأطأت رأسها بتأن بالغ، أن نعم معاليكم، والأمور على ما يرام، فكونوا مطمئنين. شملني دفء عام، وأحسست أن عروقي تتدفق دما، وأن قلبي يخفق. لا شك أن دواء الطبيب المسكين فعل فعله . قلت وهممت أن أنهض، غير أني استسلمت لغفوة لذيذة، لا هي بنوم ولا هي بدوخة، سرحت فيها روحي، كأنها فراسة، مع مخلوقات لطيفة في رقة النشوة التي تبعثها رائحة عطر خفيف لا يدري المرء أيأتيه شمالا أم يممينا. هذه جبال هملايا بقممها وروابيها بثلوجها وبأوديتها، هذه بحيرات إفريقيا، بكل كائناتها وأعشابها ,هذه جبال الآلب، بثلوجها وبصخورها الجرداء. هذه زهور ونباتات ما رأيت مثلها هذا مريخ ، وهذه الزهراء، وهذا عطارد. واحدا من تلكم المخلوقات، كنت. بل أحيانا ,أندمج فيها، وتندمج في، فأكونها جميعها، مع إحساسي بأنها معي تأخذ بيدي وتثب مرددة: نحن بناتك.. نحن أفكارك.. نحن رؤاك.. نحن المحبة والخير... نحن البقاء، الصفة التي وهبك الله، كي تبلغ رسالتك. نحن الماضي.. نحن الحاضر.. نحن الأزمنة التي ستتعاقب. وجدك يتيما فآوى. وجدك عائلا فأغنى. وجدك ضالا فهدى. حباك فأعطاك.. يذهبون فتبقى. واحدة منهن التصقت بي. وضعت كفيها اللطيفتين على خدي، وجذبتني نحوها، كأنما ستقبلني، فاعترتني قشعريرة، وتأهبت ,لاحتضانها. أنا زوجتك الأبدية. كان رحمه الله... ظل مؤبني، يلوك فعل كان ,ويستنجد بكل العبارات البليغة، التي لا تعترض مع النشرة الخبرية، والصفحة الخاصة التي ستعد بهذه المناسبة الأليمة. إنه يتحرك. همس أحدهم في أذن صاحبه، فركز الإثنان نظريهما حولي. انظر إلى وسطه. شيء ما يتحرك هناك. هناك تحت السرة. اقتربت زوجتي الأبدية مني أكثر. أثارتني، الحق أقول. أحيت في كل العروق. كثر الهمس، بينما مؤبني مغمض العينين، متجاهلا للورقات التي دبجها البارحة. كان رحمه الله. الله أكبر. الله أكبر. هتف الناس عندما امتدت يداي... أحتضن زوجتي الأبدية وأحتويها. ومشوا هاربين... مشوا هاربين، بما فيهم قتلتي ومؤبني. شنوة: شاطئ بن حسين أوت ٢٠٠٢
| |
| | | karim123k مدير المنتدى
عارضة طاقة : تاريخ التسجيل : 09/04/2011 تاريخ الميلاد : 20/05/1983 عدد المساهمات : 1161
| موضوع: رد: موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار السبت 25 يونيو 2011, 17:50 | |
| جارتنا الملكة لن أتأخر كثيرا ملكتي العزيزة وآتيك. تلتحم روحانا في عناق موجع، وتنتقلان إلى عالم الخلود.. إن هي إلا لحظات يهتز فيها كياننا، ثم يطبق الصمت الرائع. لست أدري كم مرة رددت هذا القول ,واتخذت هذا القرار، ويبدو أنني أفعل ذلك إثر كل كأس أفرغ منها، فقد اتخذت استعداداتي لرحلة لا رجوع منها، تتم بعد الوصول إلى درجة الودر. عند ما لا يبقى بعد السكر سكر، وتختلط الظلمة بالنور. والضوء يتحول إلى ضباب متعدد الألوان والأشكال ,تومض ثم تختفي، تحضر وتغيب. وعندما يحلو للنصف العلوي من الجسد، أن يترنح يمينا ,بينما يحلو للنصف السفلي أن يذهب يسارا. حينها يا حبيبتي أسرج عزيمتي وآتيك. أعري نصفي الأعلى وأخرج هاتفا، لبيك ملكتي. ها أنذا، امنحيني قبلتك الأولى والأخيرة ,وأمري أولادك وبناتك، بأن يطبع كل واحد منهم قبلة، تجهز علي، وتعجل بالرحيل. قلت آتيك. آتيك، يعني آتيك.. لن أتأخر هذه المرة، كما حدث في المرات السابقة، ومنذ سنتين . مرة، نمت، وسط الشرب، ولم أستيقظ، إلا وقد ادلهمت الظلمة، فكنت أنت وقومك نياما . مرة، تناهضت وتعلقت بما صادف وعندما استيقظت، وجدتني قرب قصرك ,منهك القوى بينما بناتك يحمن حولي، مستريبات من أمري ولربما مستغربات . مرة ,شربت كل ما لدي من قناني، فلم اسكر، ساءني الأمر فانخرطت في البكاء طوال المساء وجزءا كبرا من الليل. عندما يكون المرء في قمة الحزن، لا يسكر، بل، يكون له سكر خاص، شبيه، بالنوم وقوفا. يغوص الإنسان إلى الأسفل، ثم يطفو إلى فوق، وبين الغوص والطفو، يظل مدركا لمجريات الأمور من حوله. ربما كان السبب يومها، ما فعلته معي القطة، أو بالأحرى أبناؤها. ولدتهم في الحديقة، ولم يكن لها أحد، يعينها على محنتها سواي . أسقيها لبنا، أشتري لها السمك، أوفر لها الماء، ورغم أن الصغار شديدو النفور مني، إلا أن بوادر صداقة متينة بيني وبينها بدأت تتبدى. أناديها فتأتي ,تعطيني رأسها، فأحكه بأناملي، يروق لها الأمر كثيرا، فتموء معلنة عن امتنانها. لكن يا ملكتي العزيزة، ما أن اشتد عود أولادها، حتى أخذتهم وراحت ..راحت حيث لا أدري، وكأن شيئا لم يكن بيننا. قررت يومها أن أفعلها. آتيك وننهي العجالة. أرحل. لا خير في هذه الدنيا الخالية من الوفاء. قلت قد أجد في العالم الآخر، قططا وفية. جرت الأمور على غير ما اشتهيت. فأجلت المسألة إلى محاولة قادمة. لا أدري متى كانت تلكم المحاولة، وهل هي التي تلت أم كانت مجرد واحدة من المحاولات الكثيرة. كل ما أذكره، أن محاولة من جملة محاولات أخرى جرت. لا أدري كم كأسا عببت في رأسي، حتى الآن . القنينة الثالثة خاوية. نائمة على جنبها الأيسر كأنما هي سكرانة . هأه هأه. سكرت القناني قبل محتسيها. هأه هأه. سكرت فنامت على جنبها الأيسر. لا شك أن قلبها أشد امتلاء ووجعا من قلبي . آت. آت . قراري لا رجعة فيه هذه المرة، ولن يعوقني عن تنفيذه عائق. وعندما أنهي القنينتين المتبقيتين، آتيك، ملكتي. صبرا قليلا. في الحق القرار متخذ منذ عهد بعيد . عندما سقط الجدار , قلت ليلتها، فلتسقط كل الجدران . يومها ,ملكتي الحبيبة، لم تكوني قد حللت بيننا بعد، وكان لدي غدارة، من صنع تشيكي، جميلة ومغرية، من بقايا أيام الحلم، أيام الأمل تلك، التي ولت بدون رجعة. استخرجتها الغدارة المباركة. تفقدت خراطيشها. تفقدت آليتها. كانت في حالة جد جيدة. نشفت الزيت المطلية به، وقلت، الآن وإلا فلا. لتسقط كل الجدران، فعندما تموت كل الآمال ,يكون المرء قد مات فعليا، ولا يبقى سوى جثة تمتلئ وتفرغ، في انتظار انصرافها النهائي. مادام الأمر كذلك، فلأنصرفن حالا. لم أشرب يومها. لم أكن في حاجة لأن أشرب، فليس أسكر من خبر سقوط الجدار. وجهتها أولا إلى رأسي، ما بين الأذن والحاجب، وقلت أتكل على الله. ترددت قليلا، وخفت أن لا ينتهي الأمر بسرعة، فأعاني ألما أنا في غنى عنه. وجهتها إلى صدري، وتلمست، حتى عثرت على موقع النبض. هنا .هنا. المسألة وما فيها لن تستغرق أكثر من ثوان... طخ. ولا شيء بعد طخ. بينما أنا بين التصميم، واختيار الموقع، إذ بالباب الذي تركته عمدا مفتوحا، حتى يعثروا على جثتي قبل التعفن. خشيت التعفن، ذلك أنهم سيتقززون مني وهم يتعاملون معي، سيغلقون أنوفهم، وسيتأففون، ولربما يلعنونني في سرهم وعلانيتهم، ومثل هذه الأمور لا داعي ولا موجب لها. جئت نظيفا فلأذهب كما جئت. في تلكم الأثناء، دخل أحد الرفاق المتحمسين، للإصلاحات وبادر، دون أية مقدمات: سقط الجدار. أرأيت. قلنا لهم كذا وكذا مرة، إن قضيتنا كي تنتصر الانتصار النهائي ينبغي لها أن تتبع النهج الديموقراطي. ماذا تفعل بهذا السلاح؟ سأذهب إلى بوليفيا، لنصرة تشي. لكن تعش أنت.. منذ سنوات. لا بد أن هناك تشي ما في مكان ما من هذا العالم. أتدري ما سيحدث بعد سقوط الجدار؟.. ستنتشر أفكارنا ويتضح نموذجنا، في كل مكان، ذلك ,أنهم كالحواريين، سيخرجون وسينتشرون في الأرض .. هذه نعمة من بها المنان علينا .سيتغير العالم في سنوات قليلة. تسود أفكارنا بين جميع الناس، وسنستريح. نستريح . قلت. ثم تركته واتجهت نحو المرحاض. تقيأت، حتى اعتراني الوهن، وانصب مني العرق. أقنعته بأن يتركني، واستغرقت في التفكير، ناسيا الغدارة والمشروع ,الذي انبثق مع سقوط الجدار. مجرد كلام عندما أرجع بداية المشروع إلى سقوط الجدار. أخفي عن نفسي وعنك يا ملكتي العزيزة، الحقيقة . كل الحقيقة. إنني أخجل من ذكرها. ذلك أن جزءا كبيرا منها لا يتعلق بفكري ومثلي وقيمي التي فنيت العمر أضحي من أجلها فقط، بل يتعلق بعاطفتي كإنسان. كرجل إن صح التعبير. كنت وحدي ليلتها على طاولة العشاء، وكانت قاعة الفندق الفخمة شبه فارغة. تلفنت مرافقتي تعتذر عن المجيء لليلة، فعندها اجتماع مهم، فاستحسنت ذلك. أخلد إلى نفسي، وأستعيد أحداث الأسبوع من رحلة العمر هذه. حجتي الأولى كما قال أحدهم. فودكا. فهمتني بسرعة، وراحت تشير بيديها إلى حجم الكمية التي أطلبها.. نصف لتر مبدئيا، ثم نرى .أفهمتها. فمزقت قلبي ببسمة في منتهى الروعة والرونق. كانت لا تتعدى الرابعة والعشرين على ما يبدو. مستقيمة القد، فلا هي بالطويلة ولا بالقصيرة، لا بالسمينة ولا بالضعيفة، بل تميل إلى الرشاقة. بيضاء، تميل إلى الحمرة، وجهها مستدير، وأنفها يشبه أنف لبؤة، بينما فمها وذقنها، يتممان جمال الوجه الرائع. أدركت أنني أتأملها بنهم، فأعادت بسمتها، وكررت: فودكا. إي نعم يا عمري فودكا ,وفودكا، وفودكا، فعلى ما يبدو، هذه ليلتي، وعاشت كليوباترة وعاش أنطونيو وعاش شوقي معهم. المعلومات التي عندي، تجمع على أن الحب في هذه الديار، اختياري، ونزيه ,خال من كل الضغوطات غير الروحية، فمن أحببت، يبادلك الحب، إن التقت ملائكتكما كما يقال، وإن لم تلتق فلا إكراه في الحب. هذه البنت، ينبغي أن أحبها، وينبغي أن تحبني. وعلى ما يبدو، فإن ملائكتنا تتغامز باللغة الربانية الخالدة. حفزني على المضي في هذا المسعى، الاهتمام الذي يبدر منها بي. فهي، حتى وإن كانت تخدم ******ونا آخر في طرف القاعة الضخمة، ما تنفك، ترسل نظرها نحوي، وبرق منير، يتراقص على شفتها ,خاطفا بصري وروحي. شكرت في قلبي كل الشكر مرافقتي على تغيبها هذه الليلة، وقلت ,عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. كنت آكل ببطء، وأشرب بخفة، وكانت الفودكا من النوع الراقي، لم أعهده في الماضي، كما أن الكافيار الذي قدمته لي، لم يكن فقط من النوع الرفيع، بل كان بكمية مضاعفة، على غير العادة، وعلى غير ما قدم لل******ائن الآخرين، دفعت طبقه بأناملها اللطيفة، واستمرت في لابتسام قائلة بالانقليزية. رائع ,وأضافت كلاما آخر لم أفهمه . كنت تحت رعايتها التامة، مشمولا ببسمتها الكريمة ,طوال الوقت الذي قضيته، والذي لا أقدره إلا بكمية الفودكا التي احتسيتها.. ثلاثة أنصاف اللتر متتالية. قالت كلاما عندما أدركت أنني لم أفهمه، سألتني عن أية لغة أستعمل، الإنقليزية، أم الفرنسية، أم الإيطالية، أم الألمانية. تتحدثين كل هذه اللغات؟ والعربية أيضا. خذيني يا ابنة الأكرمين. يا رفيقة يا عزيزة. تثنت. تثنت روحي معها . لا شك أنك متزوج. تعرفين ما يقول أنجلس في الزواج وفي العائلة وأصلها. عببت كأسا أخرى، ثم أضفت: نتزوج على مذهب الإمام أنجلس. ضحكت من أعماقها، وأكدت لي أنني شربت مقدار ما تشربه جماعة من السكارى، وأن الأفضل أن ألتحق بغرفتي. حملت المفتاح، قرأت جيدا رقمه، أفهمتني أنها ستزورني في غرفتي بعد أن تنهي ورديتها، على الساعة الثانية عشرة. تأملتها جيدا، هذا الملاك، تتعانق الآن ملائكتي وملائكته، وبعد ساعة، سنلتحم في عناق لا مثيل له. عاش بلدك . عاش نظام بلدك . عاش من فكر في هذا الإنجاز العظيم ,ومن نفذه. وعشت أنت أولا وأخيرا يا رفيقة، يا رائعة. كنت أهذي متظاهرا بالسكر ,ولربما كنت فعلا سكرانا، وكانت تضحك ملء شدقيها، وكانت بعض زميلاتها يبتسمن من هنالك. لفت انتباهي أنها غير مبالية بمن حولنا، على عكس ما قيل لي من أن المتواجد في مثل هذه الفنادق، زائرا أو عاملا، يخضع للحماية المتواصلة، هم قالوا الرقابة، ولكن، فضلت لحظتها التفكير في الحماية، فمثل هذا البلد الرائع، لا يمكنه إلا أن يحمي مواطنيه وزائريه من كل مكروه. يكذبون. يتحاملون. دعاية رجعية ,إمبريالية واستعمارية .. ما اسمك يا ملاكي. نتاشا. ناتشا. سهل للحفظ. قالتها بالعربية، فمزقت ما تبقى من عروق القلب. إلى بعد حين. إلى بعد حين. غالبت نفسي، فتمكنت من الاستحمام، ومن حلق ذقني ومن التعطر، وجلست على كرسي بعيدا عن السرير، خشية أن يغلبني النوم. لا أدري كم مرة من الوقت، حتى سمعت طرقا خفيفا على الباب، أسرعت، فتحته، وفوجئت بها مع شاب أنيق جميل، سارعت إلى تقديمه: خطيبي، يعمل معي في المطعم. تناولت الباب من يدي، فأغلقته، وسارعت إلى الدخول. فتحت حقيبة يدها الضخمة، واستخرجت علبا، مبادرة، هذا كافيار من النوع الذي قمته لك، لا يوجد في السوق، ما عدا متجر اللجنة المركزية.. الكيلو الواحد بستين روبلا. هذا بستين.. هذا بأقل قليلا. يا أولاد الحلوف. يا أولاد الكلب. صرخت من أعماقي صرخة مدوية، لا شك أن الطابق السابع عشر الذي اسكنه اهتز لها، وركضت للنافذة أحاول فتحها لإلقاء نفسي منها.. إلي يا لينين. إلي كي ترى ما يفعل أحفادك. إلي ياتروتسكي لنواصلها معا ثورة دائمة. استعصى فتح النافذة، لكن إصراري كان حاسما. أفتحها، وألقي بنفسي، وأنهي هذا الوجود التافه في هذا العالم التافه. قبل أن تنفتح النافذة وأصعد على طاولة عليها كتب وأثاث، كانت أيدي تمسكني. جماعة من ميليشيا، تخاطبني بلغة لا أفهمها، ولعلهم كانوا يسألون عما بي. نتاشا. نتاشا. ظللت أكرر رغم لامبالاتهم، ولم أستفق ألا في غرفة أنيقة بالمستشفى، على صوت مرافقتي التي كانت تجلس قبالتي حزينة، وبين يديها باقة أنيقة من زهور، ذات ألوان عديدة. فعلا كنت في اجتماع للمترجمين والمرافقين، أشعر بالذنب يا سيدي فلولا تغيبي، لما حدث لك مكروه. بسيطة. قلت. وأضفتت في قلبي: "الجرح يبرأ وكلام العيب ما يبرأ." تعلم يا سيدي، أن بلدنا يعاني بعض التعقيدات .نشعر أننا لم نعد وحدنا في بلدنا. هناك كثير من الوافدين من العالم الثالث، في مختلف المجالات، مدنيون وعسكريون، ومن مختلف المستويات والثقافات، والسلوكات أيضا. لا تعتذري، يا رفيقة. فكل ما هنالك، أنني أردت أن أعيد تجربة ماياكوفسكي. مايكوفسكي كان حساسا جدا مثلك . هل عندك أخبار عن نتاشا؟ أي نتاشا؟ ولم أعثر عن نتاشا في المطعم، ولا عن أخبارها، ولا عن أحد يعرفها، بل إن عجوزا شمطاء أسنانها مطلية بالذهب والفضة، يبدو أنها من بقايا العهد القيصري، زعمت أنها هي نتاشا التي خدمتني البارحة والتي اعتنت بي بصفة خاصة، إلى درجة أنها قادتني إلى غرفتي، لأن الكمية الكبيرة التي احتسيتها من الفودكا، لم تترك في أثرا للتمييز، حتى أنني حاولت استدراجها مهددا بإلقاء نفسي من النافذة. لم يبق من سفينة الحب التي ارتطمت بصخرة الواقع كما قال مايكوفسكي، وهو يضع حدا لحياته، ولا قطعة واحدة، يمكن التشبث بها. النهاية كانت هنالك. كانت على يد نتاشا. وما سيحدث اليوم، سوى تكرار لصورة قديمة. ملكتي. عزيزتي . القناني اتكأت كلها على جنبها الأيسر. وأنا جاهز. وآت آت، سرجت جواد الرحلة وها أنني آت. ××× تحامل. مادت به الأرض قليلا لكنه ظل متماسكا. تمكن من مغادرة الغرفة التي كان بها. تمكن من فتح المرحاض وقضاء حاجته دونما صعوبات كبيرة. ترنح وهو يتجه إلى الباب الخارجي. فتحه. صدمه الضوء لحظات. صمد. قرر أن يصمد فنجح . كان الوقت عصرا، وكانت الشمس مع ذلك تحتفظ بحرارة قوية . اتجه إلى مقر الملكة. كانت الحركة فيه على أشدها. نجح في فك أزرار قميصه، كما نجح في نزع القيص ورميه بعيدا عنه. خطا مترنحا عدة خطوات. جلس جنب الصندوق ومد يده يدق عليه. خرجت الحارسات، كان عددها كبيرا، سرعان ما تبعتها الآلاف المؤلفة، قد تكون الملكة ضمنها وقد لا تكون. غمرت صدره كله. غمرت ظهره كله. غمرت وجهه، لم يبق من جسمه العاري، قيد نحلة عاريا. اسود كما لو أنه طلي بالقار. انتظر قبلة من الملكة. انتظر قبلات من خادماتها. استعد لها وظل ينتظر . هبت نسمة، فشعر بأنها حملت معها دوارا. استسلم للنوم ,ليستيقظ ______________مع الفجر فيجد نفسه في الحديقة نصف عار، والبرد يحز في عظامه. أنتحر بطريقة أخرى في المرة القادمة. احتفرتني الملكة عافت المشروب الأمريكي الذي يجري في دمي. ربما لم يبلغها أنني هنا برا بعهدي ووعدي. قال وهو يتتناهض. | |
| | | | موسوعة قصص لكاتبنا الجزائري طاهروطار | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|